ثانياً: الجلد الذي كان يجعله لا يمل قراءة ابسط التفصيلات والإصغاء لكل كلمة قبل أن يقدم على نقد عمل أدبي. وكانت ابعد الصفات عن طبيعته أن يفر من الصفحات المملة أو أن يكتفي بقراءة الفهرس ودراسة المقدمة كما يفعل الكثيرون!
ثالثا: الذكاء الوافر الذي يهئ له القدرة على فهم نفسه والتخلص من سيطرة رأيه الخاص في المؤلف وفي الموضوع الذي يبحثه المؤلف. وكانت عبقرية سانت بوف من هذه الناحية تنحصر في أمرين. الأمر الأول في مهارته في أن يلبس شخصية المؤلف الذي ينقده فيزول بذلك ما قد يوجد بينهما من اختلاف في وجهات النظر ويصبح المؤلف في نظره رجلاً عادياً لا غرابة في أفكاره فينقده في هدوء وصفاء. والأمر الثاني في أن يخلق حول نفسه نفس الجو الذي كتب فيه الكتاب حتى تكون مواضيعه كأنها حقائق واقعة. وعندئذ يقدم على دراسة الكتاب دراسة عميقة ناظراً إليه من كل النواحي مشدداً عليه الخناق. وكان هذا في نظر سانت بوف هو الوسيلة الوحيدة لفهم الكتاب.
رابعاً: الليونة في التفكير. كانت لسانت بوف القدرة العجيبة على نقد كتاب ما، ثم الانتقال إلى نقد كتاب آخر على أتم خلاف في الرأي مع الكتاب الأول.
خامساً: عاطفة العدل. وهي سجية طبيعية نادرة الوجود لدى الناس. ويقصد بها أن الشخص إذا عهد إليه القضاء في أمر من الأمور فانه يكون أسير عاطفة تجعله لا يقضي إلا بالحق والعدل. وهذا هو السبب في أن جل أحكام سانت بوف على مئات الكتب التي نقدها كانت أحكاماً عادلة سليمة من اللوم رغم تضارب أنواع الكتب واختلاف مذاهب مؤلفيها.
استغل سانت بوف هذه المواهب النادرة في علمه كناقد. على انه كان إلى جانب ذلك مبتدعاً لطرق جديدة في النقد لم تكن معروفة من قبل. فادخل على النقد شيئين:
أولاً: الصورة ثانيا: الترجمة
ولنشر الآن ماذا يقصد سانت بوف بالصورة ثم ماذا يقصد بالترجمة.
كان سانت بوف إذا أراد نقد كتاب من الكتب ساءل نفسه: ما هي أخلاق الكاتب؟ وما هي ميوله، وما هي طباعه؟ وكان يلح في الوصول إلى حقيقة هذه الأشياء التي قد يظن البعض