ذلك المنزل، غادرته هي على الأعناق، وكان هذا المولود فتاة هي عدالات.
تولى الأستاذ عبد المجيد القليني المحامي الكهل الشهير، شؤون الوكالة عن سنية وإدارة أملاكها، وكان رجلا أمينا، وزاد من عطفه عليها عرفانه بحالتها وصداقته القديمة الوطيدة لوالدها. وتفرغت هي إلى تربية عدالات والقيام بذلك الواجب المقدس نحو أختها والوفاء بذلك الدين القديم.
إن التاريخ قد أعاد نفسه سريعا والحنان الذي شربته سنية من يدي إنعام قد عادت تسقيه إلى ابنة إنعام، وأضحت لها هذه الطفلة الجميلة بمثابة الكأس والخمر والحلم والنور الذي أفلت من يد الحزن وكف القدر لكي تعيش على ضوئه ذكريات تلك الشقيقة الراحلة.
وكأن الطفلة كانت قد سرقت من أمها وهي تموت كل جمالها: شعرها الكستنائي وعينيها المعسولتين، وذكاءها الوقاد وروحها الخفيفة ونظراتها الحالمة، وغدت سنية تشرب هذا الحسن في كأس القبل وتخال أنها تقبل الإبنة والأم معا.
والشقة التي كانت تسكنها في أحد البيوت التي تملكها، قد غدت صومعة أقامتها لتعيد فيها ذكريات إنعام ولتحرق لابنتها حياتها بخورا وتقضي العمر في هذه العبادة.
والبسمة البريئة على ثغر عدالات والنظرة الشاكرة في عينيها واللثغة الساحرة في شفتيها كانت العزاء الوحيد للحسناء الزاهدة في متع الحياة.
وكان الأستاذ عبد المجيد المحامي الذي يحضر ليعطيها نصيبها من إيراد الأملاك، وسامي زوج أختها الذي نسي زوجه وتزوج من أخرى والذي يحضر ليرى ابنته ولكي يقترض منها النقود أحيانا ولم يفكر في رد ما اقترض ولن يفكر في ذلك على التحقيق. هذا كانا الرجلين الوحيدين اللذين تطأ أقدامهما هذه الصومعة.
وظل نهر الأيام يجري وعلى صفحته تسبح سنية وعدالات، وكانت الأخيرة تتفتح كالزهرة وتنمو كالغصن النضير وسنية تظللها وتحنو عليها كالسرحة الزكية وتتعجل الأيام كي تراها عروسا ذات بعل وأما لأولاد.
وحين بلغت عدالات السادسة عشرة، وانقطعت عن الدراسة أضحت الثياب الأنيقة والعطور الغالية من نصيبها، ولطالما تمنت على خالتها أن تشاركها استعمال العطور أو أن تجاريها في أناقة الملبس فكانت تبتسم لها وتقول:(لقد كبرت يا بنيتي العزيزة) فتضحك