عدالات وتقول:(حقا، لقد نسيت إنك هرمت وبلغت الثلاثين).
كان بين سكان (العمارة) التي تسكنها سنية مهندس أعزب يدعى حمدي، يقيم مع أمه العجوز وخادم، ولم تكن سنية قد رأته لأنها كانت قليلة الفضول قليلة الزيارة لجيرانها.
وذات مساء سمع رنين الجرس في مسكن سنية وفتحت الخادم الباب فوجدت حمدي أمامها يطلب مقابلة (الهانم) باعتبارها المالكة ليشكو إليها سوء أدب البواب في معاملة والدته المريضة، وترددت سنية هل تسمح له بالدخول أم لا؟ ووجدت من الأذوق أن تستقبله فإنه جارها وهو فيما تعلم رضي الخلق.
ووطأت قدما هذا الرجل الغريب بيت الأنثى الزاهدة ورأت سنية أمامها شابا طويل القامة قوي الجسم فتان الطلعة جريء النظرات يناهز الخامسة والثلاثين ويبدو عليه عدم الاكتراث بشيء ما. ومدت يدها تصافحه فضغطها في كفه الغليظة كأنما يصافح رجلا، وجلس قبل أن تسأله أن يجلس وخلع طربوشه ووضعه على مقعد بجانبه فتهدلت خصلة من شعره الفاحم السبط فوق جبينه الأسمر العريض، ووضع ساقا فوق أخرى وأشعل سيجارة ونفث دخانها عقدا في الهواء وبدأ يتكلم، وأخذت سنية تصغي لكلماته ثم تعلقت نظراتها بشفتيه الممتلئتين الحمراوين تلتقيان وتنفرجان وهو يتكلم ولم تعد تنصت إلى الألفاظ أو تتفهمها ولكنها غرقت في بحار من التيه عميقة وكانت ألفاظه تنساب كأصابع رقيقة تمزق عن ذاكرتها ستار الإهمال والكبت وتعرض عليها أحلام الشباب وتعيد إليها الشعور بتفاهة حياتها وحاجتها إلى الحياة الحافلة المليئة بحنان امرأة وعطف رجل.
وشعرت بالخجل وأحمر خداها وخشيت أن يكون قد اطلع على مجرى أفكارها ولكنه كان ما يزال يتكلم وينفث الدخان من أنفه الجميل وفمه الممتلئ بعد أن يكون قد ملأ به صدره العريض وأحست إنها رأته قبل ذلك، من سنين عديدة بل من أجيال عديدة إن صوته ليس غريبا عنها، وهذه الملامح طالما رسمتها يد المنى على لوح خيالها. وعادت تنظر إلى شفتيه تنفرجان وتلتقيان وخيل إليها أنهما في كل انفراجة والتقاء إنما تتهيآن لقبلة أو تفرغان من قبلة. وكبحت جراح نفسها وأنصتت إلى كلامه وسمعته يسألها هل يرضيها ما فعله البواب، ولم تكن قد فهمت شيئا مما قال، ولكنها وعدته بأنها ستنزل به العقاب؛ ونهض قائما وهو يعتذر من إزعاجه إياها، ولكنها أكدت له العكس ورجته أن يبلغ تحياتها