الحرب من المشاكل والشكوك والريب والأطماع أضعاف ما عرفته أوربا قبل قيامها، بل استمرت هذه المتاعب تعمل في أوربا وجراحها بعد لم تلتئم، فكان من الطبيعي أن يلجأ السياسيون لكل الوسائل التي اعتادت الدبلوماسية الصامتة من قبل بأساليبها الملتوية
ولقد كانت أكبر متاعب أوروبا مسببة من الشعوب الصغيرة التي أوجدتها معاهدات الصلح بدون أن تستند على أسس تاريخية راسخة - فهذه الدول المرتجلة، أمضت العشرين عاما، تتأرجح بين التيارات المختلفة، فلم تثبت على مبادئ واحدة، ولم تنهج خطة معينة، وكان تنازعها على مقاعد عصبة الأمم مضحكا، كما كان اجتماع مجلس التحالف الصغير المكون من تشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيا ورومانيا للتدخل في الشؤون الداخلية للمجر يدل على مهارة، ولكن تفكك هذا المجلس وانكماشه أمام المصاعب الكبرى مثل مهاجمة النمسا واحتلال تشيكوسلوفاكيا كان يدعو إلى السخرية والتهكم
فهذه الشعوب والدول الصغرى كانت تسبب الكثير من الضجيج، ولكنها لم تكن يوما ما مستقلة في سياستها، أو مخلصة للمواثيق والعهود التي قطعتها على نفسها، بل كانت أكثر الوقت ألعوبة في أيدي الدول الكبرى التي كانت تحركها
وفي وسط هذه الفوضى الأوربية كانت الدول الكبرى تسير بخطوات واسعة نحو تدعيم مستقبلها بالاعتماد على عوامل عالية أو كونية أكثر منها محلية أو أوربية - وكان التفوق الصناعي والمقدرة الرأسمالية والإنتاج الواسع كلها تمهد لهذا الاتصال أو الارتباط وتسير بالدول لاستعمارية وأراضيها ومناطق نفوذها نحو التركيز الاقتصادي، أو نحر أيجاد نوع جديد من الكتل الاقتصادية، أو الوحدات المكونة لمجموعة من الدول والأمم التي أن لم تكن مرتبطة سياسيا، فهي مرتبطة اقتصاديا وماديا، وهذه كانت أول خطوة نحو ظهور الكتل الكبرى التي نراها اليوم
ولم يكن هذا التوجيه في حلم أحد من الناس، بل هو النتيجة الطبيعية للعوامل التي سببها هذا التوسع الاستعماري الجارف وهذا التطور الذي صحب العالم - وبينما هذه الدول تسير بخطوات واسعة نحو تأكيد سيطرتها معتمدة على تفوقها - أي بينما هذا التحول في الحلقة الأولى من حياته - ظهرت المتناقضات والشروخ في هذه الأنظمة الاقتصادية
فالنظام الرأسمالي الذي بلغ اوجه، لم يكن يفكر في شئ من الانهيار والتفكك حينما دهمته