أزمة سنة ١٩٣٠ وما بعدها، ولم تكن هذه الأزمة أوربية حتى يمكن تلافيها، بل كانت عالمية، فهي أشبه الأشياء بالسنوات العجاف التي تحدثت عنها الكتب المقدسة.
كانت هذه الأزمة الواقعة بين حربين امتحانا قاسيا للأنظمة الاقتصادية ولقوة المقاومة بين الدول الكبرى، وكانت أكثر من ذلك، كانت الدافع الديناميكي الطبيعي الذي اقنع الكتلتين الكبيرتين الانجلوسكسو بأن مستقبل العالم يتطلب تفاهما وتعاونا وارتباطا بين أمريكا الانجلوسكسو وبريطانيا الانجلوسكسونية
ويحسن بنا قبل التكلم عن أثر هذه الأزمة أن نعطي فكرة أولى عن أحوال العالم الاقتصادية، أو نظرة لرجل على ربوة رصد يسجل حوادث تمر أمامه:
كان يبدو للناظر أن الدنيا يغمرها طوفان أو فيض هائل من خيرات الله، فلم يحدث في العالم أن وصلت مستخرجات المواد الأولية إلى الملايين من الأطنان من كافة الأصناف التي وصلت إليها في العشر سنوات الواقعة بين ١٩٢٠ - ١٩٣٠ وما يقال عن المواد الأولية، يقال عن المنتجات الزراعية والصناعية، ولكن يقابل هذا الفيض من الخيرات حالة أخرى بين سكان الأرض: فقد ذكرنا في البحث السابق كيف ازداد عدد سكان المستعمرات. وكيف أصبح ملايين من الناس يسكنون جهات لم تكن مسكونة ومأهولة. وهذا القسم من الإنسانية امتاز بشيء واحد اسمه (الحرمان)، أي أن الفقر والفاقة، وأحياناً المجاعات والأوبئة اختصت بأجزاء من الإنسانية قد تقرب من نصف المجموع الآخر أن لم تزد عليه
ففي الوقت الذي كانت فيه ثروات العالم وخاماته تنتقل بانتظام على البواخر بين القارات، وفي الوقت الذي وصل فيه استغلال الشعوب الآسيوية والأفريقية بل والأمريكية إلى درجة لم تعرف من قبل - كان سكان هذه المناطق أو غالبيتهم لا يصيبهم سوى النزر اليسير أن لم يكن أقل من اليسير من الفيض الذي تخرجه أراضى بلادهم، فهو يصدق فيهم أكثر من غيرهم قول الشاعر العربي:
كالعبس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
ولعل أكبر المتناقضات التي عرفتها البشرية منذ خلق الإنسان على الأرض، والتي لم يعرفها الحيوان في حياته قط هو ما يأتي: