فكيف يرى هذا الومض أن لم تضاعفه له حتى يصير شعلا تضئ له السبيل؟ أو على الأقل تقيم عليه الحجة عريضة مستعلنة لا لبس فيها ولا خفاء؟
أن المؤمن الوثني المشرك أيضاً مستريح لومض آخر في وجدانه، فكيف تقيم عليه الحجة والتذكرة؟ أليس بالبرهان المحسوس المستمد من استعراض الكون كله بما فيه التجربة الأزلية بفساد الأمور حينما تتعدد الرياسات وتتلاقى الأشباه والأمثال من الآلهة الذين لهم الذكاء والمهارة والقدرة وحبهم لعلو بعضهم على بعض كما يقول القرآن:(ولعلا بعضهم على بعض)؟
(ح) يقول الأستاذ سيد: (أفلا يرى الأستاذ أن كلامه (في مسؤولية الآلهة) لا يثبت شيئاً ولا ينفيه؛ فمسؤولية الآلهة أمام عبادها هي مسؤولية نظرية من جانب واحد لا تحفل بها الآلهة ولا تجيب سائليها وكثير من الناس يحاكم الله مثلها. . .)
كان الأستاذ سيد فرض جدلا أن هناك آلهة أخرى فوق تناول الإنسان لها بالمسؤولية، وفرض أنها في مستوى من القدرة والعقل لا يمكن الإنسان من محاكمتها، ولذلك رتب اعتراضه على ما قلته. . . ولكن الأمر غير هذا في الواقع: فالإلهة التي عبدها أكثر البشرية، وخصوصا العرب آلهة كانت في متناول أيدي الناس يخلقونها بأيديهم ويسألونها عن قرب ويحاكمونها وقد يأكلونها وقد يضربونها ويجعلونها جذاذا وقد يصلبونها إذا كانت من البشر الخ. فهي كما قلت تقع عليها التبعة والدينونة (أتعبدون ما تنحتون)(كانا يأكلان الطعام). أما الله تعالى فلا تقع عليه المسؤولية حتى لو وجهت إليه لأن هؤلاء الحسيين يرون الآلهة المجسمات المزعومة، فيحاكمونها ولا يستطيعون أن يحاكموه تعالى ويسألوه لأنهم لا يرونه ولا يدركونه ولا يحيطون به فهم يحسون أمامه أنهم فراغ مطلق لا يقبض عليه!
والجدل القرآني هنا يخاطب تلك اللحوم البشرية الصغيرة الطفلية التي لا تحيط فكرا بما تقدم عليه، ولا بد له أن يذكرها بصغاراتها وضالة تفكيرها في معاملتها لآلهتها.
(د) أما اعتراض الأستاذ على الدليل التاريخي في (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) بأن القوم لم يؤمنوا بذكر من معه وذكر من قبله حتى يحاسبوا به. فأقول ردا عليه: إن الدليل التاريخي قد لا يخضع للمنطق العقلي، وإيراده للاستدلال به يكون لاستيفاء ضروب الأدلة