وأرجاء الشرق وسروا في أقاصي الأرض مجاهدين سريان الدم في الشرايين. فأصبحوا خارج بلادهم أوفر عدداً وثروة، وأعز نفوذاً وجاهاً، وأرقى أدباً وعلماً منهم في بلادهم.
فانشطر لبنان شطرين، لبنان المغترب المنتشر تحت كل سماء، ولبنان المقيم الرابض في بطون أوديته ومشارف جباله.
ولا أغالي إذا قلت إن لبنان المغترب فد سجل صفحة مجيدة في التاريخ الحديث، فأظهر أبناؤه المشتتون في بقاع الأرض أنهم أعلام في كل علم، أكفاء في كل فن، أقطاب في كل صناعة، وانهم متى فسح لهم المجال يجارون أرقى الأمم في جليل المآثر وغرر الأعمال.
وقد برهنوا في هذه الحرب أيضاً أنهم شعب مقدام حي جدير بالتقدير والإعجاب لم يتلكئوا عن القيام بواجبهم نحو الحرية التي يقدسونها والديموقراطية التي يتعشقونها. فتجندوا بالألوف في صفوف الحلفاء، وابدوا في ساحات الحرب شجاعة وبأساً وفي مصانع الأسلحة والمختبرات ذكاء وعلماً، فهم في هذه الحرب قد حاربوا في كل الجبهات متطوعين في جحافل الأمم المتحدة بين الإنكليز والفرنسيين والكنديين والأمريكيين والأستراليين والنيوزلنديين والهنود والأفريقيين وغيرهم. لقد صح فيهم المثل العربي القائل: في كل وأد البنات أثر من ثعلبة. أجل في كل جيش من جيوش الحلفاء مغرزة من لبنان تساهم في احقاق الحق وإزهاق الباطل، كما أن في كل قطر من أقطار المعمور تقع العين على جالية لبنانية عزيزة الجانب جليلة المفاخر.
ولم ينس المهاجرون وطنهم لبنان، فهم يساهمون على الدوام في مساعدة أهله وتدبير عمرانه. فلهم في كل بقعة من بقاعه آثار مخلدة ومكرمات لا تحصى. لقد أقالوا عثرته وانتشلوا أبناءه من وعثاء الفاقة والجهل، وشيدوا في مختلف مدنه وقراه اجمل المنازل وأفخم القصور، فأصبح لبنان بفضلهم بلداً ديمقراطياً عامراً، لا أمية في أهله ولا أرستقراطية مستأثرة في ربوعه.
أما لبنان المقيم فهو على الرغم من رقيه الأدبي والعلمي وتقدمه الصناعي والتجاري لا يزال دون لبنان المغترب تقدماً وطموحاً، لضيق نطاقه، وضآلة حجمه، وعدم اتساعه لاستثمار شتى القوى والمؤهلات الكافية في صدور أبنائه، ولارتمائه أيضاً في أحضان الطائفية واشتغاله بالسياسة.