ولعله لم يعتن بعمل من أعماله الفنية مثلما اعتنى بهذه الصور.
وواظبت ليزا على الحضور إلى مرسم الفنان كل هذه السنوات لتجلس أمامه جلستها الخالدة؛ وكان هو يجلب إلى مرسمه الموسيقيين والشعراء ليسمعوها أطرف ألوان الموسيقى وأبدع قصائد الشعراء حتى ينضج وجهها بذلك التعبير العبقري الذي حفظته لنا هذه الصورة الفريدة.
والصورة تمثل ليزا جالسة أمام شرفة رخامية وقد تجردت من كل الحلي والزينة، مرتدي ثوباً بسيطا وعلى رأسها غطاء خفيف شفاف. وقد وضعت يدها اليمنى - وهي أجمل يد رسمت في تاريخ فن التصوير كله - فوق يدها اليسرى ومما يلاحظ خلو عينيها من الأهداب والجفون.
ونرى خلفها منظراً من مناظر الطبيعة في جبال الألب قوامه الصخور والينابيع الجارية - وهذا المنظر في حد ذاته لا يقل حيوية وحرارة عن الصورة نفسها وكأن لوناردو قد أراد أن يجمع كل شيء هامت به روحه في صورة واحدة. وقد وفق، فالصورة فيها تلك البسمة الخالدة. وما توحيه من معان، وفيها المياه الجارية وما تثيره في النفس من احساسات.
وكان لوناردو مشغولا بأعمال أخرى كثيرة إلى جانب صورة (ليزا) ولكن هذه الصورة وحدها كانت تستبد باهتمامه وكان يعود إليها كما يعود التعب المجهد إلى ملاذه الذي يجد فيه الراحة بعد العناء، والسعادة بعد الشقاء، والعزاء بعد الخيبة واليأس.
ولم يفرغ منها إلا بعد خمس سنوات. وقد اعترف أنه لم يفرغ منها تماماً.
ومنذ ذلك الحين (الجيوكانده) نبع وحي وإلهام لا يغيض، فكم تحدث عنها واستوحاها الشعراء والفنانون والكتاب، وكم سجل عنها الأدب والشعر من روائع باقية، وما زالت (ليزا) توحي المعاني والأخيلة إلى عشاقها وعشاق الفن والجمال. . . ولعلها - إذا أبقي عليها الزمن - ستظل مصدراً من أخصب مصادر الوحي والخيال.
ذلك لأن صورة (ليزا) خلاصة عناصر كثيرة: كان لوناردو عندما يجلسها أمامه يستنهض كل احساساتها ويستجيش أنبل عواطفها ومشاعرها وأفكارها عن طريق ما كان يسمعها من موسيقى وشعر.