للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأغلب الظن أنه لم يتقيد بالطبيعة تقيداً مطلقاً بل أضاف إلى ملامحها وتقاطيعها شيئاً من عنده ضنت به الطبيعة على (ليزا). والآلهة تحنو دائماً على كل عمل فني كبير فتنفح الفنان بعضا من روحها وتهبه من سرها.

وصورة (ليزا) جمعت هذه العناصر على خير مثال.

أنها ليست صورة امرأة تعيش بعقلها وعواطفها وغرائزها في دنيا الناس الحافلة بالصغائر - أنها امرأة ولكنها ليست كالنساء يستغرق العيش في صورة المادية الخامدة الخاملة كل قوى الحياة في نفسها. أنها صورة امرأة تحررت وخرجت من الوجود الضيق لتعيش في الكون الكبير فاستيقظ كل ما في نفسها من عناصر وملكات، وغدت نفسها مرآة للكون الكبير.

أترى لوناردو أراد أن يجعل منها رمزا لخلاصة ما يعتمل في نفسه من معان، وبدلا من أن يكتب كتابا يضمنه فلسفته رأى أن يرسم صورة ولم يجد خيرا من ملامح (ليزا) وتقاطيعها لإبراز ما تجيش به نفسه الكبيرة من معان وأحاسيس؟ قد يكون. .! فقد كان لوناردو كما قلنا ملاحاً متقحما يجوب بحار الحياة التي لم ترها من قبله عين، وكان يعيش دائماً في المنطقة الدقيقة التي تفصل بين المعلوم والمجهول يفعم قلبه الشوق وحب الاستطلاع ويبهر عقله وعينه ما يتكشف له من عظمة وجلال وجمال.

ولقد أفلح لوناردو في أن يحيط (ليزا) بمثل هذا الجو ويثير في نفسها كل عوامله عن طريق ما كان يسمعها من شعر وموسيقى والنتيجة هي أن ارتسم على وجهها كل معانيه: فالتعبير الذي ينطق به وجهها فيه كثير من اليقظة والحيوية ولكن فيه أيضاً شيء من الدهشة كأنها تحيا حياة غريبة لا تستطيع فهمها ولكنها حياة فاتنة فيها نوع من السحر الخفي. وفي عينيها شيء من الفتور كأنها متعبة، ولكن فيها أيضاً شيء من العزم والمضاء كأنها - رغم التعب - لم تمل، وكم تحتوي هاتان العينان من أفكار غريبة وأحلام آبدة واحساسات رقيقة غامضة.

وكم فيهما من سخرية وترفع، وكم فيهما من الانطواء على النفس ورباطة الجأش كأن صاحبتهما تعيش (فوق المعركة). . .

ذلك بعض ما توحيه الجيوكانده، وهو نفسه ما توحيه حياة لوناردو. ولكم سخر (تيوفيل

<<  <  ج:
ص:  >  >>