رجلا كاملا لا نصف أن يحلق ذقنه كل صباح بالماء البارد في الشتاء، وجو إنجلترا من أقسى الأجواء. فقلت لنفسي: إن مصر جوها معتدل، فأنا أولى بهذه النصيحة وأقدر على العمل بها. وتوخيت بعد ذلك أن لا أستعمل الماء البارد في كل حال فنفعني هذا وقواني على احتمال المؤثرات الجوية وإن كان بدني خرعاً، وأما المنظر، فكان شاباً من العمال راقداً على الحجارة في وقدة الظهر وشمس الصيف تضربه، وكنت يومئذ في السابعة عشر من عمري، فقلت لنفسي: أنا أتململ لأن وسادتي ليست محشوة بريش النعام، وسجادتي ليست من صنعة العجم، وهذا الغلام ينام على الحجارة ولا يتأفف ولا يشكو ولا تمنعه خشونة المضجع أن ينام ملء جفنيه. . . أما والله لا اتخذت بعد اليوم شيئاً وثيراً! وما زلت إلى اليوم أوثر الخشن على الرقيق، وليس في بيتي كرسي مريح أو فراش لين، لأني أخجل أن أكون مترفاً.
ورضت نفسي على الجلد، فاتفق في أول عهدي بدرس الأدب أن وقعت في يدي نسخة من ديوان (الشريف الرضي) مطبوعة في الهند، ليس فيها بيت واحد يسلم من التحريف، فما استطعت أن أفهم شيئاً، وكدت أيأس، ولكني تشددت وأقبلت عليه أعالج تصحيحه، وقضيت في ذلك قرابة عامين وأنا أوفق قليلا وأخفق كثيراً، حتى هداني الله إلى ديوانه المطبوع في بيروت، وهو أصح وأسلم من الخطأ، وإن كان لا يخلو منه، فتشهدت واسترحت.
وحبب ابن الرومي إلى ما قرأته له مبعثراً في كتب شتى، فطلبت ديوانه، فلم أجد إلا مخطوطاً - أعوذ بالله منه - في دار الكتب المصرية، وكان فيها مخطوطان آخران، ولكني لم أعط إلا أسوأ الثلاثة وشرها، فاستنسخته وعكفت عليه سنوات طويلات المدد أحاول التصحيح والضبط، فلم أبلغ من ذلك ما أريد، ولكني بذلت غاية ما يدخل في الوسع
وكان من أول ما اقتنيت، الأغاني طبع الساسي، وهي نسخة محشوة بالغلط، ففككت الأجزاء (ملازم)، وجعلت أحمل الملازم معي واحدة واحدة إلى دار الكتب في أوقات فراغي، وأراجع النصوص نصاً نصاً، وبيتاً بيتاً، وأدون التصحيح، أو التكملات على ورق أبيض أعددته لذلك، وصرت ألصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، حتى إذا انتهيت من جزء جلدته وانتقلت إلى ما يليه. وهكذا حتى أتممت الكتاب كله، فصار ضعفي حجمه الأصلي. وحدث لسوء حظي في أيام الحرب الماضية أن رقت حالي فجأة، واحتجت