كثير ومع ذلك ظلوا بعيدين عن العقاب بل ظلوا في كنف الدولة ينالون خيراتها ويحتمون بها بل يلون ولاياتها من الخلفاء ويقودون جيوشها مع الثقة والتقدير، ولابد من الإشارة إلى دسائس البلاط ومكايد السياسة والتنافس بين رجال البلاط وما كان لكل ذلك من الخطر في إشاعة التهمة بالزندقة والعقاب عليها على ما ستفصله إن شاء الله.
ونكتفي في القول في توارث الزنادقة بعرض موجز لأخطر ثورتين ظهرتا في عهد المهدي: إحداهما ثورة الزنادقة المبيضة في خراسان وقد ظلت نحو عامين وثانيتهما ثورة الزنادقة المحمرة بعدها وقد تم إخمادها بسرعة ويسر، فقد كانت هاتان الثورتان هما اللتين وجهتا نظر المهدي إلى الزندقة وجهة خاصة وصبغتا عهده بها صبغة خاصة مما لم يكن له قبله مثيل. وهانحن أولا نلخص أخبارهما مما كتب كل من الطبري وابن الأثير في تاريخه: ظل المنصور يدبر ملكه قرابة اثنتين وعشرين سنة (١٣٦ - ١٥٨هـ) وقد توفى في يوم السبت سادس ذي الحجة سنة ١٥٨هـ ببئر ميمون محرما وهو يقوم بشعائر الحج وقد تولى الخلافة بعده ابنه المهدي ولم تمض بضعة أشهر من سنة ١٥٩هـ أو من خلافة المهدي حتى فوجئ بثورة عوان في خراسان هي ثورة الزنادقة المبيضة فاضطرب لها ملكه وزلزل زلزالاً شديداً. ذلك أنه خرج في خراسان في هذه السنة (١٥٩هـ) رجل من الفرس يسمى هاشم بن حكيم وهو المعروف في التاريخ بالمقنع الخراساني لأنه كان يضع على وجهه قناعا من الذهب ليخفي به دمامة وجهه ولو لم تكن ثورته كثورة غيره انتفاضا على الدولة لاستبدال خلافة بخلافة أو الثأر لقبيلة من قبيلة أو نصر جيل على جيل بالقوة جيل بالقوة فحسب، بل كانت إلى جانب محاولة التخلص من الحكم العربي لفارس ثورة ذات آراء خاصة في الدين والكون: كانت نزعة عنصرية فارسية بدليل أنها قامت في خراسان، والقائمين بها من الفرس، وكانت ترمي لأخذ الثأر من الخليفة والعرب جميعاً: فقد كان المقنع يقول بتناسخ الأرواح وأن روح الله ظهرت في آدم ثم انتقلت إلى نوح وهكذا إلى أبي مسلم ثم المقنع نفسه، فهو إذن يدعى الربوبية لنفسه، وهذا ما لم يزعمه ثائر قبله لنفسه، ومن أجل ذلك كانت ثورته ذات طابع خاص يميزها من الثورات التي تقدمتها وإن اتفقت معها في كثير من الغايات. ومن أجل ذلك أيضاً كان من الحزم والفطنة أن ينظر إليها الخليفة المهدي نظرة خاصة تمتاز عن نظراته إلى الخارجين عليه من الطلاب الملك