وواضح من نص الوثيقتين برمته، ومن سيرة صاحب المشروع في زمانه ومكانه، أن فكرة هذا الاستقلال وليدة السياسة العليا، وان المعلم يعقوب تبناها تحت رعايا الحملة الفرنسية. ولو امتد بالجنرال يعقوب زمنه لأيّدت فرنسا مشروع هذا القبطي الوجيه الثري، عند عقد معاهدة اميان، ليخدم مصلحتها بنفوذه في مصر إذ كان أحد رؤساء طائفته وقد صيره شخصية كبيرة الشأن. لكنه مات فلم يبق في الفرقة القبطية من يصلح للحلول محله والمفاوضة في مشروعه.
لما عاد بونابرت من مصر إلى فرنسا وتولى رياسة الحكومة القبطية أرسل ماتيو ده لسبس قنصلا عاما إلى مصر، وذلك في سنة ١٨٠٤ من أيام القلق التي كان جلاء الجيش الفرنسي عن القطر تركه فيها لنفوذ المماليك وللفوضى. وكان من شأن المهمة الحقيقية المعينة لماتيو أن تعرضه للمخاطر في بهرة هذه الفوضى، إذ كانت المهمة هي إعادة النفوذ الفرنسي إلى حاله السابقة، وقد أداها بنجاح باهر: فان البيانات والأوامر السرية التي أصدرها إليه تالران المشهور، وزير الخارجية الفرنسية يومئذ، أوجبت عليه أن يبحث في الجيش التركي الذي حارب الفرنسيين عن رجل مقدام ذي كفاية للحلول محل المماليك؛ فاهتدى ماتيو بفراسة ذات بصيرة إلى محمد علي (المغفور له محمد علي باشا الكبير)، وفاز بصداقته، ومساعده مساعدة فعالة في سبيل علوه؛ فلم يبث محمد علي أن أصبح سيد البلاد وجعل المصريين ينادون به والياً على مصر، ثم أباد المماليك - كما كان يحدث لو نفذ مشروع يعقوب.
ومشهور أن فرنسا أيدت المساعي التي نال بها محمد علي فرمان الولاية عام ١٨٠٥؛ بعد ذلك فرمان بنقله والياً على سلانيك، لأن الحكومة البريطانية طلبت من الباب العالي أن يعيد السلطة إلى المماليك ضامنة له أمانة محمد بك الألفي - الذي كان الإنجليز يؤيدونه إذ وعدهم وعوداً تعرض مستقبل مصر للخطر، منها انه سوف ينزل لهم عن الثغور المصرية الكبيرة.
ثم نجحت مساعي فرنسا في استنبول ففاز محمد علي بفرمان أعاده إلى ولاية مصر من غير أن يبارحها. لكن الإنجليز لم يرقهم نجاحه الملائم لسياسة فرنسا ونفوذها، فأرسلوا