فإذا مر بك أحد فلا تلتفت إليه ولا تلق له بالا. فإذا حياك فلا تجب تحيته بغير النباح. فإذا أظهر لك دهشته فانبح ثانية وثالثة، فإذا تمادى في الالحاح، تماديت في النباح.
ثم اتخذ من النباح شعاراً لك بعد ذلك، فلا يجب بغيره كل من حياك، ولو كان أخلص عارفيك وأصدق محبيك وأقرب المقربين إليك من ولدك وأهلك. انبح ولا تكف عن النباح، واعو ولا تقصر في العواء، حتى يضجروا بك فيرفعوا أمرك إلى والي المدينة.
فإذا مثلت بين يديه فاعتصم بالصمت، فإذا سألك عن جلية أمرك لم تُحر من جواب إلا تملأ أذنيه عواء. وحذار أن تغير من ذلك شيئاً أو تبدله حتى يقر في نفس الوالي أنك - فيما تأتيه - غير متصنع ولا متكلف.
فإذا اقتنع أن طائفاً من الجنون قد ألم بك، لم يجد فائدة من حوارك، فيدفعه اليأس منك إلى إطلاق سراحك، ورد حريتك إليك، وإعفائك مما عليك من دين!
أتعرف يا أبا الغصن كيف استقبل (رأس الوزة) هذه النصيحة الغالية؟ لقد فاضت نفسه - حين سمعها - عرفاناً بالجميل. ولهج لسانه بأبلغ عبارات الثناء والشكر على ما يسر له من أسباب النجاة من ورطته، والخلاص من كربته. فلما جاء الغد نفذ الخطة وفق ما رسمها له في براعة وحذق!
قدم عليه زائر من جيرانه، فلم يكد يراه جالساً حتى أقراء السلام، فكان رده عليه نباحاً. وأقبل ثان وثالث ورابع، فلم يلقوا منه غير ما لقيه أول القادمين عليه.
ولم يمض زمن يسير حتى ذاعت قصته في المدينة، فأقبل عليه دائنوه يتقاضوه ديونه، فلم يلقوا إلا عاوياً. وراحوا يعنفون به تارة، ويلينون له تارة أخرى، ثم يسرفون في وعيدهم حيناً، وفي تلطفهم أحياناً، فلم تجد في رده عن عوائه حيله ولا وسيلة.
فلما يئسوا منه، ذهبوا به إلى الوالي، فسأله عن قصته، فنبحه. فزجره وتوعده، فوجده يسترسل في النباح. وما زال بالوالي حتى اضجره؛ فأمر بزجه في السجن، ووكل به من يراقبه عدة أيام ليخبر أمره، ويجلو سره، فلم يظفر منه مراقبوه بشيء غير ما تواصل من نباحه.
فأمر الوالي بإطلاق سراحه بعد أن ثبت له بعض العيون والأرصاد يكمنون في غدواته وروحاته، ليروا ما يصير إليه شأنه.