للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فظلوا يتبعون ظله أياماً، فلم يتحول عن حاله فتيلا. فأيقن الوالي حينئذ انه لا بد قد أصابه لمَمٌ، وأدركه من الخبال طرف.

فلم ير له حيلة فيه، فقضى بإسقاط ديونه، وأمر دائنيه بالإقلاع عن مطالبته بما لهم قبلهُ من الحقوق.

وهكذا خلص (رأس الوزة) مما ركبه من دين. وتبدل خوفه أمناً، وفزعه طمأنينة، وأصبح يغدو ويروح حيث شاء، دون أن يزعجه دائن أو ينغص عليه صفو عيشه غريم

أتعرف كيف جزائي على هذا الصنيع يا أبا الغصن؟

فقلت له مبتسماً ساخراً وقد امتلأت نفسي زراية له ونفوراً منه: (لا شك عندي في انه سار على النهج القديم الذي رسمته له في اغتيال حقوق الناس، فنبح في وجهك كما نبح في وجوه دائنيه، ثم في وجه واليه).

قال: (أبو عامر)

ما أبدع ذكاءك وأنفذ فطنتك يا أبا الغصن: لقد جئته بعد أن هدأ باله وقر قراره أذكر عهده، واستنجزه وعده، فما زاد على النباح. فدهشت من جرأته، وتملكتني الحيرة من صفاقته.

وقلت له: (لك أن تمثل هذا الدور مع كل إنسان إلا معي، وأنا واضع خطته، ومُبدع قصته. فتكلم ويحك!).

فأبى إلا عواء يتلو عواء، وكلما تماديت في محادثة تمادى في عوائه، حتى نفذت حيلتي، ودب اليأس إلى قلبي، فغادرته محزون القلب مهيض الجناح.

ورجعت إلى داري أفكر فيما انطوت عليه نفوس الناس من غدر ولؤم وفساد، بعد أن رأيت من صاحبي ما لم يكن ليخطر على بال، من فنون العقوق، وسلب الحقوق.

ولكن خبرني بربك - يا أبا الغصن - كيف تبينت خاتمة القصة قبل أن أفضي بها إليك؟).

فقلت له: (إن عجبي منك - لا منه - شديد. فليس عليه - فيما صنع - غبار: لقد رسمت له الطريقة واضحة جلية، فسلكها مهتدياً بهديك، فما تنكبها ولا حاد عنها. فمن تلوم؟ ومم تشكو؟ ألم تعلمه كيف تغتال حقوق الناس؟ وهل أنت إلا واحد من الناس؟ فكيف تريده على ألا يغتال حقك فيما يغتال؟ ما أجدرك - يا صاحبي - أن تشكر لهذا الرجل أمانته في الانتصار لرأيك، والتحمس لخطتك، والانتفاع بتدبيرك ومشورتك. لقد لقنته درساً في الأثرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>