وأخبارها في الاندثار والعفاء. لكن شيئاً حفظ على الرواية رونقها الذي كاد يبليه العصر الجديد، وحفظ على الرواة مكانتهم التي كانت تريد أن تزول؛ بل جعل من هؤلاء الرواة طبقة خاصة لا هم لها إلا الرواية، ولا شغل لها إلا ما أبقته الأيام من الشعر القديم والأخبار القديمة وتدوينها.
هذا الشيء هو مساس الحاجة إلى تفسير القرآن وشرح الحديث، ومن ثم إلى كتابة النحو وتدوين اللغة. ذلك لان العرب حين انتشروا في البلاد المفتوحة، وامتزجوا بأهلها من الأعاجم، وانتأوا عن الصحراء مهد لغتهم، أخذوا يفقدون فصاحتهم الأولى، وجعلوا ينسوْن بلاغتهم المأثورة. هنالك غمضت عليهم لغة القران والحديث، وخفيت عليهم أسرارها. وهنالك مست الحاجة إلى تفسير القرآن وشرح الحديث، ومن ثم إلى كتابة النحو وتدوين اللغة. وكان الشعر القديم هو أداة هذا كله. فكان الفقهاء والعلماء يلتمسون البيت أو البيتين أو الأبيات عند الرواة، ثم يثبتونها في كتبهم. وكلما كان البيت أوغل في القدم، كان أوثق عندهم في الاستشهاد.
كانت اللغة إذن تُدرس لا لذاتها، ولكن لخدمة الشرع؛ وكان الأدب يُدرس لا لذاته، ولكن ليكون أداة لشرح الذكر الحكيم. ولكن لم تلبث الحال طويلا حتى فطن العلماء إلى أن في الشعر القديم ما يصور نفوس الشعراء القدامى، وإلى أن هنالك أسباباً من اللذة والمتاع في الأخبار القديمة. حينئذ أصبحت الحال غير الحال، وأضحى الأمر غير الأمر؛ فإذا بدراسة لغة القرآن تؤدي إلى دراسة الأدب نفسه، وإذا بالدارسين يصبحون إنسانيين بعد أن كانوا متكلمين
حدث هذا التطور العظيم في أخريات عهد بني أمية، وفي عهد أبي العباس والمنصور والمهدي من خلفاء بني العباس. فكان أبو عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، والمفضل الظبي، وخلف الأحمر، أهم القائمين بجمع الشعر القديم وتدوينه؛ وكان أبو عبيدة والأصمعي، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه هشام الكلبي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، والسكري، والطوسي، أهم القائمين بجمع الأخبار وتدوينها. وكان أعراب البادية يُدْعَوْن إلى الكوفة والبصرة، ويسألون عما يحفظون من شعر وأخبار. ثم أصبح من دأب العلماء فيما بعد أن ينزحوا إلى البادية، فينتقلوا بين قبائلها، ويستقوا من هذه القبائل الشعر