(فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول لله ووثب على وصي رسول الله وتناول أمر الأمة).
ثم قال بعد ذلك لأتباعه:(إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصى رسول الله فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وأدعوهم إلى هذا الأمر). وهكذا دخلت تعاليم هذا المفسد الذكي قلوب الناس إذ تلطف لهم؛ فجاء من الجهة التي تحن لها قلوبهم، وتهواها أهواؤهم.
لقد طاف الأقطار العربية قطراً قطراً، بدأ بالحجاز باثاً ضلالته، ثم انعطف إلى الشام والشام يومئذ بصير بأمره معاوية بن أبي سفيان، الذي فطن إلى خطره فأبعده؛ إلا أنه على حذره أصابه رشاش من إفساده. والطبري يزعم أن ابن السوداء (لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر).
والصحيح أنه قدر، وزرع، وحرك على معاوية صحابياً جليلاً أذعن عامة الشاميين لأقواله حتى أضطر معاوية الداهية الحليم إلى أن يطلب من الخليفة عثمان إخراجه من الشام، ذلك هو أبو ذر الغفاري وحادثه معروف مشهور، وهذا الطبري نفسه يتولى قص الحادث:
(لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال (يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: (المال مال الله، ألا إن كل شئ لله!!) كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين؟ فأتى أبو ذر معاوية فقال له:(ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟) قال معاوية: (يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، المال مال الله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟؟) قال أبو ذر (فلا تقله). . . ثم كان ما كان من تأليب أبي ذر الأغنياء على الفقراء وخوف معاوية على الشام منه ومن دعوته ثم نفيه منها.
أني لشديد الإعجاب بذكاء ابن السوداء وصدق فراسته، وإحكام دراسته لنفسيات الناس، لقد عرف الخبيث من يختار من الشام فيخدعه بالله، ولقد وفق التوفيق كله بهذه المقالة التي فصلها على مزاج أبي ذر، فلم يكد يلقيها حتى طار بها أبو ذر فحط على معاوية. وهذا هو فن ابن السوداء الذي أنجح مساعيه؛ فهم جيد للناس وأمزجتهم ونفوسهم، و (استخبارات صادقة منظمة) انتفع بها أعظم الانتفاع في إحكام خطط الشر، واستغلال حسن لغفلة المسلمين عن نواياه، وخداع ماكر لهم عن دينهم وسلامة دولتهم.
لقد جنى الروم من دسائس ابن السوداء خيراً كبيراً: إذ شغل القوى الإسلامية بعضها