للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ببعض فكسر شوكتها وشغلها عن الاندفاع في الفتوح، وما استتعبت بعد ذلك من شرور أخذ بعضها برقاب بعض أفظع وأشنع هولا ولو وقع ابن السوداء هذا لإنجلترا اليوم لاستغنت به في إفناء عدوها عن جيوش وأساطيل منظمات استخبارية تعج بالخبيرين الفنيين.

والظاهرة أن ابن السوداء سكر بهذا الظفر الذي لم يكن يتوقعه في الشام، فأتى أبا الدرداء، ففطن هذا لمكره فقال: (من أنت؟ أظنك والله يهوديا)، ثم انصرف عنه فأتى عبادة بن الصامت، فتعلق به عباده وسلمه إلى معاوية قائلا: (هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر).

(كان حكيم بن جبلة رجلا لصاً، إذا قفل الجيوش خلس عنهم، فيسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب إلى عامله عبد الله بن عامر: (أن احبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً). فحبسه فكاد لا يستطيع أن يخرج منها).

على هذا الرجل المفسد الموتور الجرئ الناقم على عثمان، نزل عبد الله بن سبأ لما أتى البصرة. صار يجتمع إليه الناس ويبث إليهم تعاليمه الهدامة ومقالاته الثورية المفرقة، بلباقة، لا يصرح فيها بما ينم عن نواياه، وفشا أمره وقبل الناس ما يقول وعظموه وبلغ خبره الوالي عبد الله بن عامر. فأرسل إليه فسأله (ما أنت)؟ فأخبره: (أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك). فقال عبد الله: (ما يبلغني ذلك، اخرج عني) فخرج حتى أتى الكوفة، فأخرج منها، فاستقر بمصر وجعل يكاتب جماعاته في الأمصار ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم).

هكذا صار ابن السوداء بماله من (استخبارات وفروع) يتسقط الناقمين واحداً واحداً: ممن ناله عقوبة أو تأديب من عامل أو خليفة، أو ممن له طموح إلى منفعة لم يصل إليها. . . فجعلهم حزبه وبطانته وألف بينهم حتى صار له في كل بلد جماعة. فلما نظم هذه الفروع استقر بمصر بؤرة الناقمين، وألقى إلى جماعاته في الأقطار دستور العمل وخطة الدعاية التي تسبق الثورة، وإليكها كما حفظها الطبري:

(أنهظوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وأدعوهم إلى هذا الأمر).

فبث دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم،

<<  <  ج:
ص:  >  >>