طريق الحواس؛ ومن ثم جاءت فلسفتهم حية لا تؤمن بغير الحواس، وتحرص على التثبت أكثر مما تحرص على الاعتقاد، وتحاول أن تقف منها على أنها جزء منها لا أنها شيء خارج عنها يجب أن تخضع له وتلقى قيادها إليه. ولأمر ما لم تنجح المذاهب المجوسية المختلفة في الانتشار بين العرب الساميين بالرغم مما كان للفرس من سلطان سياسي وأدبي ومالي عليهم، وبالرغم من الاختلاط بينهم قروناً عدة قبل الإسلام ولا سيما في العراق واليمن وبالرغم من أن العرب ظلوا يدينون بديانات وثنية أثناء هذا الاختلاط حتى جاء الإسلام.
إن كل ما ورد من مذاهب المجوسية ينبئ أول ما ينبئ عن أن الفرس الآريين عشقوا الطبيعة عشقاً قوياً، وأن هذا العشق القوي هو الذي دفعهم إلى تصورها على الهيئة التي عليها تصورها، والتعبير عنها على النمط الذي به عبروا عنها، وكان أعظم ما لفت أنظارهم الشمس، فقد رأوها أعظم الأشياء، ووجدوا لها من المنافع ما لم يجدوا لغيرها، فقدسوها وأسندوا إليها كثيراً من الصفات الإلهية، ومن أجلها عشقوا النور وعظموه وعبدوه وأسندوا أليه كل خير كما أسندوا إلى ضده الظلام كل شر، أوهم رمزوا بالنور إلى كل خير وبالظلام إلى كل شر، ونحن نعلم ان الرموز تنقلب بتطاول الزمن رسوماً وتقاليد جافة وتمحي منها صبغتها الفلسفية والفنية، وتقدس لذاتها ولم يفهم مدلولها، بل تقدس لذاتها ولو لم تحقق مدلولها المقصود في البدء، ويكون لها بعد جمودها الإجلاء وحدها دون المعاني المستترة وراءها، وهذا ما جرى ويجري في كل زمن على الفلسفيات والديانات والفنون ونحوها ولا سيما على أيدي عوامها، وكل إنسان يرى حتى في الحياة اليومية أمثلة لهذه الانتكاسات العقلية بين العامة بل الخاصة في كل صقع من الأرض.
ويظهر لي أن هذه العقائد والنزعات المجوسية أقدم عند الفرس من تاريخهم المعروف، فهناك فرقة من المجوس تسمى الكيو مرتية نسبة إلى كيو مرتْ ترى أن للعالم إلها قديماً خالقاً أضافوه إلى النور وسموه (يزدان) وهو يقارب الله عند غيرهم، وإلهاً مخلوقا - خلقه يزدان - أضافوه إلى الظلمة وسموه (أهرمن) وهو يقارب إبليس عند غيرهم، وقد نسبوا إلى الأول الحياة والحكمة وكل خير وبركة في العالم، كما نسبوا إلى الثاني الموت والفساد والجهل وكل شر وفتنة وضرر وإضرار.