والآن وقد استعد الحس البشري المحدود لتصور هول الحاقة غير المحدود. الآن وقد تهيأ الحس باستعراض هذه الصور المروعة الطاغية الرابية الغامرة. . . فقد آن الأوان لاستكمال العرض، وتهيأ الموقف للوثبة الكبرى:(فإذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدة، وحملت الأرض والجبالُ فدكتا دكه واحدة، فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) وننظر في اللوحة الكبرى التي تجمع هذه المشاهد جميعاً. فماذا نرى؟
نرى نوعاً من التناسق الفني العجيب بين الحاقة والقارعة والطاغية والعاتية والرابية والدكّة الواحدة والواقعة. . . تناسق اللفظ والجرس، وتناسق الوقع في الحس، وتناسق الحجم والقوة، في ضخامة الحادثة وروعتها، وتناسق المناظر التي تخيَّل للحس أنها جميعاً ثائرة فائرة طاغية غامرة، تذرع الحس طولاً وعرضاً، وتملؤه هولاً وروعاً، وتهزه من أعماقه هزاً.
ولن يجد مصور بارع اتساقاً أعظم من اتساق الصيحة الباغية الطاغية، والريح الصرصر العاتية، والأخذة القوية الرابية، والطوفان الطاغي تخوض غماره الجارية، والنفخة الهائلة الواحدة، والدكة المحطمة الواحدة، وبين وقعةِ الواقعة، والسماء المنشقة الواهية. . . إنها كلها من لون واحد وحجم واحد ونغمة واحدة، وكلها تؤلف اللوحة الكبرى، وترسم الجو العام الذي أراده القرآن.
وكأنما العاصفة تهدأ، والسكون يخيم، لحظة ليبدأ استعراض جديد، فيه هول، ولكنه هول ساكن رابض، بعد ما سكن الهول الهائج المائج:
(والمَلَكُ على أرجائها؛ ويحمل عرشَ ربك فوقهم يومئذ ثمانية. يومئذ تُعرَضون لا تخْفَى منكم خافية: فأما من أُوتيَ كتابَه بيمينه، فيقول: هَاؤمُ اقرءُوا كتابِيَهْ، إني ظننتُ أني مُلاقٍ حسابيهْ. فهو في عيشة راضية، في جنةٍ عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأما من أُوتيَ كتابه بشماله، فيقول: يا ليتني لم أوتَ كتابيهْ، ولم أدرِ ما حسابيهْ، يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليهْ، هلك عنِّي سلطانيهْ. . . خذوه فَغُلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، ثم في سلسلةٍ ذرعُها سبعون ذراعاً فاسْلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحُضُّ على طعام المسكين، فليس له اليوم هاهُنا حميمٌ ولا طعامٌ إلا من غسْلِينٍ لا يأكله إلا الخاطئون).