ها نحن أولاء نشهد العرض. نشهده مجسّما مخيَّلا في أشد المواضع التي يحرص الإسلام على التجريد فيها والتنزيه. ولكن طريقة التعبير بالتصوير تختار التجسيم في هذا الموضع أيضاً لمجرد إثارة الحس وإشراك الخيال والتأثر الوجداني الحار. . .
فهنا السماء قد انشقت فهي واهنة واهية، وهنا الملائكة موزعون على أرجائها، في هذا الاستعراض الإلهي العظيم، وهُنا العرش - عرش ربك - يظلل الجميع في وقار رهيب، يحمله حملته وهم ثمانية. . . ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منهم، فالجرس الموسيقي لثمانية يتسق مع جرس الفاصلة كلها، والمقصود ليس حقيقة العدد ولكن تنسيق المشهد وتكثير المعدود. . . هُنا مجلس قضاء تم فيه الحشد، فليبدأ الاستعراض؛ حيث لا تخفى خافية في الحس أو الضمير.
وتكملة للعرض المجسم ينقسم المعرضون ويكون هناك كتاب يؤتى باليمين وكتاب يؤتى بالشمال. (فأما من أوتي كتابه بيمينه) فما تسعه الساحة من الاطمئنان والمباهاة: (فيقول هاؤم أقرءوا كتابيه) لقد ظننت لشدة خوفي من القارعة (أني ملاقٍ حسابيه) فإذا أنا ألقي الغفران والنعيم! ثم ليلقِ صاحبنا السعيد جزاءه الطيب على مشهد من النظارة جميعاً: (فهو في عيشة راضية. في جنةٍ عالية قطوفها دانية) وليلقِ التكريم المعنوي كما لقي التكريم الحسي، فها نحن أولاء نسمع من عليين:(كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) فذلك التكريم حق لكم بما أسلفتم من صالحات.
وننظر في الجانب الآخر من الساحة لنرى ذلك الذي أوتي كتابه بشماله: لقد أدركته الحسرة، وركبته الندامة، فلنسمعه يتوجع توجعاً طويلاً وقد ثبت المشهد كأنه لا يتحرك:(يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدرِ ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية. وما أغني عني مالية، هلك عني سلطانيه. . .) ولكن ما باله هكذا لا ينوي مغادرة الموقف، ولا ينوي كذلك السكوت عن التفجع؟ لقد طال استعراضه ليتحقق التأثر الوجداني بتأوه الندم وتفجع الحسرة. فإذا تم هذا العرض فهنا نسمع الأمر العلويّ الذي لا يرد، فلنكتم أنفاسنا ولنستمع! (خذوه فغلوه. ثم الجحيم صَلُّوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) هنا كلُّ شيء مفصل مطوّل، فمن الجمال الفني، ومن التأثير الوجداني، ومن الغرض الديني، ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة. وهنا يشترك جرس الكلمات وإيقاع العبارات مع السلسلة