البشر، وصارت أسماؤهم مناراً للسالكين، فلما بلغوا ثلاثمائة، خاضوا المعركة الأولى في الدفاع عن الحق، معركة بدر، فلما بلغوا عشرة آلاف، فتحوا مكة، وطهروا الجزيرة العربية، فلما بلغوا مائة ألف فتحوا الأرض!
فتحوا الأرض، فلما انقادت لهم، فتحوا القلوب بالعدل، والعقول بالعلم، فما عرفت هذه الدنيا أنبل منهم ولا أكرم، ولاأرأف ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم، ولا أجل ولا أعظم!
فإذا كان في العظماء من كشف مكروبات، فمحمد قد كشف أبطالاً، وأن يكن فيهم من داوى مريضاً، فمحمد قد داوى أمماً، وإن يكن فيهم من برع في الحرب وفي فن القتل، فمحمد كان فنه الأحياء والهدى، وإن يكن فيهم من ألّف قصصاً وروايات، فالذي صنعه محمد لو تخيله قاص أو أديب لكان أكبر الأدباء، فكيف بمن أقامه من الحس لا الوهم، والحقيقة لا الخيال؟ وإن يكن فيهم من أفضل على أمة، فمحمد قد أفضل على الناس كلهم، فما على الأرض أمة لم تستضيء بنور دعوته، ولم تقتطف من ثمار حضارته، ولم تنتفع في قضائها بشريعته، لولا (محمد) وقرأنه ما كانت حضارتنا، ولا علومنا، ولولا حضارتنا وعلومنا ما كانت حضارة الغرب، نحن حفظنا إرث فارس والروم واليونان، وصححناه وزدنا فيه وأفضنا عليه من نور القرآن. ثم علّمناه تلاميذنا من أهل أوربة، وأعطيناه في فلسطين لمن جاء يبغي لنا الموت، وحمل إلينا سيوفاً أحدّها التعصب وشحذها الجهل، فحملنا إليه الحضارة والعلم والحياة، وأريناه نُبل أتباع (محمد)!
أفبلغ بالناس أن ينسوا فضل (محمد) عليهم؟ إن ينس الناس فما نسى التاريخ، وإن تسكت الألسنة تروى الصحف ويتحدث الصخر: سلوا هذه القبة السامقة والسواعد التي أقامتها، سلوا هذه الأساطين والعلماء الذين استندوا إليها، سلوا هذا المنبر: كم صدع فوق أعواده بحق، وكم أعلن من مبدأ كريم، سلوا الظاهرية وما فيها من الكتب، سلوا النظامية والمستنصرية والأزهر، سلوا دجلة: كم ألقي فيه من نتاج أدمغتنا، سلوا الأندلس: كم أحرق فيها من ثمرات عقولنا، وما نقصت مكتبتنا بما أغرق وما أحرق، سلوا جامعات الغرب: ألم تعش على كتب ابن سينا وابن رشد والإدريسي والبيروني دهراً طويلاً؟ سلوا تلك البيض: هل جردت إلا دفاعاً عن الحق والفضيلة والمثل الأعلى؟ بل سلوا قلوبكم وما صنع فيها الإيمان، تروا أن هذا الإرث القليل الذي وصل إليها يثبت أن الإسلام هو أعظم شيء عرفه