هذا الوجود. . . إننا برغم ما صنع الدهر بنا وما صنعنا بأنفسنا حين أهملنا شريعتنا لا نزال نحتفظ بعزة المؤمن الذي يعلم أن الأجل محتوم، فلا يخاف أن يعاجله الموت إن صدع بحق أو خاطر في واجب، وأنه لا إله إلا الله، لا يضر ولا ينفع سواه، فلا يخاف مع الله أحداً، قم حيثما شئت من ديار العربية التي قبست من نور (محمد)، ثم ادع باسم الدين، وباسم العرض، ترِ كيف تقتحم الأهوال، وتستسهل الصعاب، بل ادع بذلك في بوادي نجد، وفيافي اليمامة، تلّبك رمالها وتنقلب فرساناً، إن لم تجد من الناس ملبياً!
لا تعجبوا، يا سادة، فإن من معجزات (محمد) أن جعل أتباع دينه كلهم (على رغم أنوفهم) أبطالاً!
إننا اجتمعنا في محبة (محمد)، ولكن منا من لا يعرف على حقيقته (محمداً)!
ولم يكن (محمد) عبقرياً فحسب، وأن آتاه كلُّ صفات العبقريين، ولم يكن نبياً فقط، وإن جعله الله خاتم النبيين، بل كان بشراً عظيماً أوحى إليه بدين عظيم، فهو - بشراً - أعظم البشر على الإطلاق: في كبر عقله، ونبل نفسه، في سمو خلاله، في أحاديثه وأقواله، في آثاره وأعماله، إنه ليس في العظماء، أو قل فيهم من عرفت حياته بدقائقها وتفاصيلها كمحمد، فانظروا أي خلق عظيم لم يتخلق به، أي موهبة لم يعطها، أي مكرمة لم ينلها؟ وهو - نبيّاً - أعظم الأنبياء على الإطلاق، جاءت الشرائع الماضية بأحكام تصلح لزمان واحد، وكانت شريعته قواعد وأسساً تستخرج منها الأحكام التي تصلح لكل زمان، شريعة عقل لا تخاف العقل ولا تجزع من اعتراضاته، بل تواجهه وتتحداه، وتدعوه إلى المناقشة مهما كان مدعاة، لما قالوا المقالة الشنعاء قال لهم:(أإله مع الله قل هاتوا برهانكم): تعالوا ناظرونا، نقرع دليلكم بدليلنا، وما نغلبكم إلا بقوة البرهان، شريعة تدعو إلى العلم النافع، رياضياً كان أو طبيعياً أو اجتماعياً، وترغب فيه وتحضّ عليه، شريعة جمعت ديناً وعبادة، وتشريعاً وسياسة، وأخلاقاً واجتماعاً! إن الدنيا بغير شريعة (محمد) جسم بلا روح، ولفظ بلا معنى!
فما بالنا نظلم الإسلام، ونظن به العصبية والجمود؟ ما بالنا نستحي به ونحسبه يعود بنا إلى الوراء، والإسلام مذ كان دين سماحة وعقل وتقدم؟ ألا لقد آن لنا أن نفهم الإسلام على وجهه، وأن نعرفه على حقيقته، ونأخذه من منابعه، لا من أفواه أشباه العلماء، ولا من أشباه