وكانت لا تفتأ تردد هذه العبارات التهكمية وأمثالها في كل يوم بلهجة ساخرة وبصوت عال مسموع كان يصل في كثير من الأحيان إلى مسامع فالنس وزوجته! وبلغ الغرور بمدام توفاسن إلى حد إنها كانت تزعم نفسها أعظم شأناً من أهل قريتها جميعاً، وأرفع منزلة منهم وأعلاهم مقاماً، لا لشيء إلا لأنها لم تبع ولدها شارلوت! ولم يغب هذا الغرور عن أهل القرية أنفسهم ولم يفتهم أن يلاحظوا عليها ما كانت تدعيه من العظمة المصطنعة والخيلاء الكاذب، ولكنهم كانوا مع ذلك لا يفتئون يرددون أمامها أنها سلكت مسلك الأمهات الطيبات القلب!! ولما بلغ شارلوت الثامنة عشرة من عمره كان يتباهى على أقرانه، ويعتقد - كوالديه - أنه أعلى منهم مرتبة وأسمى مكانه لأن أمه المحبة لم تبعه كما باعت مدام فالنس ولدها جان!! وبينما كانت عائلة فالنس ترتع في بحبوحة العز والرفاهة، كانت عائلة توفاسن لا تزال على ما هي عليه من الفقر المدقع والفاقة البالغة! وكان يسار أسرة فالنس وغناها هما السر في هذا البغض، والباعث على تلك الكراهية التي كانت تبديها عائلة توفاسن نحوها في كل وقت وفي أي مناسبة!! وبعد مضي مدة انخرط الابن الأكبر لمدام توفاسن في سلك الجندية، بينما توفى ولدها الآخر إثر مرض خطير ألم به ولم يمهله إلا بضعة أيام. أما شارلوت فقد ظل في القرية ليساعد والده الذي كان قد بلغ من الكبر عتياً، وليعين أمه العجوز وأخته الوحيدة على العيش ومكافحة صعاب الحياة. وكان شارلوت قد بلغ الحادية والعشرين من عمره حين وقفت في صباح يوم مركبة صغيرة جميلة أمام الكوخ المجاور، ونزل منها شاب قوي وسيم الطلعة، أنيق الثياب،. ثم دخل الكوخ بقدمين ثابتتين، وخطوات متزنة واسعة. . . وكانت مدام فالنس تغسل ثيابها في ذلك الوقت، بينما كان زوجها الذي بلغ من العمر أرذله يستدفئ بنيران المدفئة. وقبل أن يفيق الولدان من دهشتهما تقدم الشاب - ولم يكن إلا ابنهما جان فالنس نفسه - نحوهما وقال لهما وهو يمد كلتا يديه لمصافحتهما: أسعدتما صباحا يا والديّ العزيزين. . .
فهب الأب من مكانه دهشاً مذهولاً، وعقدت المفاجأة السارة لسانه عن النطق، بينما ألقت الأم بقطعة الصابون في الوعاء الذي كانت تغسل فيه ثيابها لفرط اضطرابها ودهشتها وهرعت نحو ابنها الذي لم يكن قد زارها منذ أن اصطحبته مدام دوبرييه معها، وقالت له بصوت مضطرب مرتعش النبرات وهي تتأمله بزهو وإعجاب من قمة رأسه إلى أخمص