والقلقشندي وقد كان فارسياً عارفاً بالثقافة الفارسية واللغة الفارسية ومؤلفاً بها وأطلع بنفسه على بقايا الطوائف التي تدين بالزرادشتية وغيرها في عهده واتصل بهم، وهو أكثر استقصاء وإحاطة بهذا الموضوع من سائر المؤرخين الذين خاضوا فيه وليس لهم ثقافته ولا استقصاؤه ولا عبقريته ولا علمه الواسع بأخبار الأمم الشرقية في عصره وقبله وإطلاعه على حوادثها وأساطيرها وأخلاقها لسياحته فيها ومعرفته بلسانها واتصاله بها ووقوفه على كتبها وآثارها. فلقد عقد هذا العالم الكبير في كتابة (الآثار الباقية) فصلاً عنوانه (القول على تواريخ المستنبئين وأممهم المخدوعين عليهم لعنة رب العالمين) وذكر فيه كثيراً منهم سواء من كانوا قبل زرادشت مثل بوذاسف الذي ظهر بأرض الهند ومن كانوا بعده مثل ماني ومسيلمة ولم يعد فيهم زرادشت، وكل ما ذكره في هذا الفصل أن الملوك البيشداذية وبعض الملوك الكيمانية ممن كان يستوطن بلخ كانوا يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت.
فزرادشت لم يدع النبوة كما نفهمها، وما كان الفرس ليفهموها ولا ليتصوروها كما نفهمها ونتصورها نحن حين نسندها إلى الأنبياء الحقيقيين كموسى وسواه من أنبياء بني إسرائيل وكمحمد صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، أو حين نفهمها ونتصورها كما ادعاها المتنبئون كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي، فهذه نظرة في أساسها يهودية، لم تصل إلى فارس إلا في القرن الثالث الميلادي على عهدماني كما سنذكره مع سببه عند الكلام فيه، وأمر آخر يؤيد ذلك هو أن هذا المذهب المنسوب إلى زرادشت ليس له من فضل فيه يتفرد به إلا التنقيح والبيان إذا بالغنا في إسناد الفضل إليه فانه قام بجولة في أنحاء البلاد الفارسية للاستطلاع ومشاورة حكماء الفرس لإصلاح العقائد التي كانت قبله مملوءة بالخرافات وتطهيرها من الشوائب، ولا يتفق الادعاء بالنبوة التي تقضي بنزول وحي من السماء حاسم القول في كل شئ مع هذه الرحلة والمشاورات الواسعة، ومما يؤيد ذلك أيضا أن كيستاسف الملك الذي أعتنق الزرادشتية، منع من تعليمها العامة حين منع تعليمهم كتاب زرادشت، فالزرادشتية كما اصطفاها زرا دشت كانت تحتوي على تعاليم وآراء لا قبل للعامة بفهمها واستساغتها فهي بذلك مذهب خاص وضع كثير منه للخاصة، وذلك لا يتفق وآثار النبوة التي يقصد بها الناس عامتهم وخاصتهم، وبذلك يكون كيستاسف قد سبق كثيراً