من الفلاسفة الذين أوجبوا قصر بعض المعارف على الخاصة دون العامة لأن العامة لا تطيقها ولا تفيد منها وقد تتأذى وتؤذى بها: من هؤلاء الفلاسفة سقراط الذي أنكر الكتاب لأنه مفتوح لكل من يقع في يده وآثر التعليم بالاختصاص، ومنهم الفارابي الذي حرم تعليم العلم الرفيع على السفلة، ومنهم الغزالي الذي نادى بأن من المعارف (المضنون به على غير أهله) وألف كتابه (لجام العوام عن علم الكلام) لأن الناس كما قال في كتابه هذا، وكما يعرف العارفون بعقول الناس قد خلقوا أشتاتاً متفاوتين في المدارك، فهم كالمعادن تختلف صورة ولوناً وخاصة ونفاسة، وكذلك القلوب معادن فبعضها لمعدن النبوة، وبعضها للولاية، وبعضها للشهوة البهيمية والأخلاق الشيطانية، وكل ما قدمنا ينفي ادعاء زرادشت النبوة وإن كان لا ينفي ادعاء أتباعه النبوة له، والمرء غير مسؤول إلا عما يقول ويفعل لا على ما يتقوله عليه الناس ويسندون إليه من أعمال لم يأتها سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء، ونحن نعلم أن العظمة في كل زمان ومكان مبتلاة من هذه الناحية بأصدقائها ابتلاءها بأعدائها والعامية لا العظمة هي المسئولة عن كل ذلك.
وقد كان مما دعا إليه زرادشت إبطال عبادة الأصنام ووجوب التوجه للشمس أو النار عند الصلاة، وعدم تدنيس العناصر الأربعة: النار والهواء والتراب والماء، والشفقة على الحيوان، والتزام الفضائل في المعاملة، والامتناع ما أمكن عن أكل اللحم.
نجح زرادشت في إقناع الملك كيستاسف بالدخول في مذهبه وكان لذلك أثره من دخول الناس فيه وإيمان الشعب به، ولا سيما انه لم يكشف لهم منه إلا ما تطيق عقولهم، وبذلك صارت الزرادشتية المذهب الرسمي في البلاط الملكي والمذهب الذي ارتضته العامة طوعاً وكرهاً. ومن أسباب نجاح الزرادشتية أنها ولا سيما ما كشف منها للعامة لم تبعد كثيراً عما كان عليه الفرس قبله، فأعظم جهده ينحصر - كما قدمنا - في التنقيح والتبيين لما كان قبله، ومكانه في ذلك لا يزيد في رأينا كثيراً عن مكان الفيلسوف الهندي الكبير رابندرانات تاجور في الفلسفة الهندية البرهمية، حين نقحها وعبر عنها كما ارتضاها عقله. وما كتاب زرادشت الذي سنتحدث به بعد، إلا كمثل كتاب تاجور (السدهانا) ودواوينه التي نظمها عبر فيها عن آرائه واحساساته تجاه الكون الذي يحبه ويعد نفسه جزءاً منه، فلا نبوة ولا تهجم على المشاكل الغيبية عند زرادشت ولا تاجور، بل فلسفة وفن مردهما الشغف