للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أعلمه برغم قربها وجوارها ومحبتي لها.

وكان هذا النقل حداً فاصلاً في حياتي، إذ لو بقيت بتركيا أو نقلت لأمريكا لاتجهت حياتي اتجاهاً آخر، ولربما لم يكن لي هذا الشرف بان أكتب هذه الكلمة، وأن يقرأ لي قراء الرسالة بعض ما أكتب اليوم. ولقد جاءت هذه النقلة وليدة المصادفة والأقدار، رمية من غير رام، ذلك لأن أولى الأمر لم ينظروا فيها إلى تحقيق شيء من المصلحة العامة أو ما يلابسها من اختيار الأصلح أو الأوفق وإنما قصدوا سد خانة من بعض خانات كانت مفتوحة أمامهم فقذفوا بي إليها، وكان ذلك من حظي إذ غدوت جندياً من جنود الإسلام والعروبة حينما تفتحت أنظاري على أرض فلسطين ومنازل الوحي الخالدة والنبوة.

وحضر قوم لتهنئتي أو لتعزيتي، إذ المتفق عليه أن القدس والشرق منفى يرسل إليه من أفلس في بلاد أمريكا وأوروبا ليستجم ثم يعود إلى بلاد النور. وهذا ما تراءى لهم، وقد كان يصح أن يبدو لي شيء من ذلك، ولكن الآية التي سمعتها من ذلك القارئ الأعمى في محطة من إقليم الشرقية كانت تخفف وقع كل هذا علي وتجعلني أسلم بأن في ذلك الخير كل الخير، وأقول هذه إرادة المولى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).

ووصلت إلى مدينة القدس في الجزء الأخير من سنة ١٩٣٥ لأتولى عملاً جديداً ولألقى وجوها جديدة. وكان أول ما قمت به هو توجهي لزيارة المسجد الأقصى، وكان ذلك في شهر رمضان، ودخلته وأنا على نية ثابتة بأنه المسجد الذي ورد ذكره في الآية التي تلاها القارئ.

ودخلته وقد غمرتني نفحة من نفحات الله، جعلتني أشعر في قرارة نفسي بحوادث التاريخ الجلي التي حملها على هذا الصعيد، وكأن كل ركن من أركان هذا المسجد يشير إلي، وكأن كل حجر من أحجار قبة الصخرة يحادثني. ثلاث عشرة مائة من السنين، تركة ضخمة من الجهاد والمجد، هل يدرك أهلها ما هي؟

إن الأمم الإسلامية التي نعيش وسطها ونحيا، كانت تبدو في ذلك الوقت وقد أفلست إفلاساً يكاد يكون تاماً في حياتها وتنازلت عن حيويتها وعن أي مظهر من مظاهر الإستقلال، حتى اعتقد كثيرون أنها موطن الخمود والنوم والجمود والتخاذل، فهل تكون لها عودة؟ وهل تقوى أذرعتها ونفوسها الواهية على حمل الأمانة؟ أم ستقعد بها الهمم؟ يوم لم تعد

<<  <  ج:
ص:  >  >>