تفكر في شيء سوى ملاذها وتكالبها على المادة وما تسوقه غليه غرائزها الواهية، حينما فقدت كل عناصر القوة والأنفة، وانحطت إلى درجة الجماد فلم تعد تهمها هذه المساجد والمدارس، أو تترك في نفوسها شيئاً أو بعض الشئ، وبعد أن خيل إلى كثيرين أن ماتت لديها كل دوافع الكفاح وفنيت فيها بواعث الثورة والدعوة لخير العمل؟
كنت أطوف بالصخرة وأنا أتأمل كل ذلك وأقول متى تتحرك أم العروبة وتنهض من كبوتها وتستيقظ من نومها العميق وتخلع ما هي فيه من ذلة ومسكنة؟ إن كل ما أراه أمامي في وجوههم وسيرهم ومعاشهم وفي المدن وفي القرى يدعو إلى الأسى والألم، وهم بعيدون كل البعد عن حيوية المبادئ التي قامت عليها الرسالة المحمدية الكبرى.
سرت في أنحاء الحرم وهو متسع الأرجاء، لا أقول يكاد يكون خالياً، بل هو أكثر من أن يكون خالياً، أما أنا فتخيلته في نفسي يفيض بصفوف المصلين: كان يبدو لي صحنه ووجهاته وجوانبه يوم الفتح الأكبر، يوم دخله سلطاننا صلاح الدين بجند مصر فأقام أول صلاة للجمعة فيه، وكيف تبارى العلماء والفضلاء فجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون خطيب ذلك اليوم.
كنت أفكر كيف أذن المؤذنون على منائر المسجد الأقصى وأسواره فارتجفت المدينة بأصوات التكبير والتهليل، ومر أمامي كيف تقدم الملك السلطان المتواضع بقبة الصخرة فرسم للقاضي محي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي، أن يخطب، وكيف ألبسه العماد الكاتب جبة سوداء من تشاريف الخلافة العباسية، فلبسها وصعد المنبر واستفتح بسورة الفاتحة، فقرأها بأكملها، وقرأ أول سورة الأنعام، ثم قرأ من سورة الإسراء، ثم قرأ من سورة الكهف، ثم من سورة النمل، ثم من سورة سبأ، ثم من سورة فاطر، كما تجد ذلك مفصلاً في كتاب الأنس الجليل.
ثم شرع بالخطة فبدأها:(الحمد لله معز الإسلام بنصره) وصلى على نبيه الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى. . . وذكر أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وصلى على آله وأصحابه والتابعين؛ وقال (أيها الناس ابشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام. . . وتطهير