للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفتخر تلك الكلية فيما بعد بأن كان ملتن أحد أبنائها، ولكنها اليوم تتلقاه كما تتلقى غيره من الفتيان، لا تدري ماذا يكون غداً من أمره.

وأقبل الفتى على كليته فرحاً يداخله من الزهو ما يداخل كل يافع في مثل موقفه؛ يحدث نفسه في حماس عما هو عسى أن ينهل فيها من المعرفة ويصاحب من الأقران؛ وما هو عسىٌّ أن يأخذ منه بقسط من المناظرة والحوار وتبادل الرأي بينه وبين أقرانه، وكل أولئك حبيب إلى نفسه التواقة إلى الدرس الطلابة للعلم.

وتلفت الذين سبقوه إلى الكلية يتطلعون على عادة الطلاب إلى أقرانهم الجدد في أول الموسم، فوقعت أعينهم من بينهم على فتى أنيق الملبس، جميل الطلعة، حلو السِمت، في قسماته وسامة رائعة، وفي ملامحه أمارات الذكاء، وفي نظرته جد يشبه الكبرياء، وفي عينيه تأمل وحلم، وفي مشيته والتفاتته هدوء ودعة، وفي تحيته رقة ودماثة.

وسرعان ما تعرف إليه فريق منهم، فما لبثوا أن أعجبهم اتساع أفقه وحدة ذكائه؛ وإن كانوا يرون فيه كثيراً من الاعتداد بنفسه ورأيه، ويرون فيه كذلك حرصاً شديداً ما رأوا قبل مثله على قواعد السلوك واحترام النفس، يكادون يحسونه تزمتاً وانقباضاً لا يرتاحون إليه؛ وإن فيه لميلاً قوياً إلى الشعر، يحفظ منه قدراً عظيماً ويشير إلى مواضع الجمال ويستمع في شغف وطرب إلى ما ينشد أقرانه مما غاب عنه ويعجب كيف غاب عنه؛ ولما توثقت بينهم وبينه المعرفة رأوا فيه شاباً يأخذ نفسه بقواعد الطهر والعفة وهو في ذلك صلب الإرادة لا يلين ولا يحيد.

وما لبث ملتن أن أحس أنه علق من الآمال على الكلية أكثر مما يريه الواقع، فأين منه أيام قراءاته في بيته، وأين منه حريته في هاتيك الأيام الحلوة؛ إنه كلما ازداد صلة بالكلية أحس في نفسه النفور شيئاً فشيئاً من جوها، والضيق من كثيرين من القائمين بأمرها؛ ولكن ما من البقاء زمناً بها بد، وما على المرء إلا أن يحمل نفسه على الصبر حتى ينقضي أمر بقائه. . . بهذا كان يتحدث الفتى إلى نفسه، كلما ساوره من حاله ضيق أو كدر خاطره أمر.

وكانت الكلية غداة التحق بها ملتن لا تزال فيها على الرغم من النهضة بقية من العصور الوسطى، وذلك في روحها وفي مواد دراستها، وكانت أهم مواد الدراسة بها المنطق

<<  <  ج:
ص:  >  >>