فإذا كان الأميركان من الملونين يبحثون عن صورة بوشكين الشاعر الروسي المشهور، ويضعونها في أحسن مكان لصلة القربى معهم لسمرة لونه، فكيف ينكر فضل كافور وهو ملك من اعظم الملوك؟ ولم لا يقوم السودان ويقعد له ويحتفي به وهو منه وإليه منسوب؟
إنني يا صديقي لا أتفق معك ولا أجاريك في قولك بأن الوطنية والكرامة تمليان حذف أسمه وسيرته وعهده من كتب التأريخ، بل أقول: إنهما تمليان علينا نشر فضائله ومحاسنه؛ وإنني كلما تأملت في عصر أستاذنا أبي المسك كافور وقرأت عنه وعن أخلاقه وسيرته بين الناس، بدت شخصيته ممتازة محبوبة عليها وقار واحترام وحشمة، لا بأعماله السياسية وحياته العامة، وهي ليست موضع نزاع، بل بأدبه وتواضعه وخضوعه لأحكام الله، وكرمه وإخلاصه لمن حوله، ولصلاته ودأبه على عمل الخير وإسداء المعروف، وهي نواح إن أهملتها بعض كتب التاريخ، فقد وجدت مبعثرة، ولذلك رأيت أن أشير إليها.
قال إبراهيم بن إسماعيل إمام مسجد الزبير:(إن كافوراً كان يداوم الجلوس بالغداة والعشي لقضاء حوائج الناس وكان يتهجد ويمرّغ وجهه ساجداً ويقول: (اللهم لا تسلط عليّ مخلوقاً). وكان لا يأنف من أصله ومولده، ويحمد الله إن رفع من قدره، وينسب ما لقي من خير إلى توفيق الله ونعمته. فقد ذكر أبو بكر المارداني، وكان وزيراً لكافور ولأبي منصور تكين التركي:(إن كافوراً كان دائم التحدث بنعمة الله عليه، ويذكر أيامه بالسودان، وكيف جيء به إلى مصر وعمره أربع عشرة سنة). وحدّث أنه كان بمدينة الفسطاط في السوق المنسوية لبني حباسة طباخ يبيع الطعام، فعبر كافور في شبابه وطلب منه شيئاً من الطعام، فضربه بالمغرفة على يده وهي حادة، فوقع مغشياً عليه فأخذه رجل ورشّ عليه الماء، وأواه حتى وجد العافية. قال:(فكلما عزّت عليه نفسه يذكر ما أصابه من الطباخ، وقد يركب ويأتي إلى ذلك الزقاق، ويسجد شكراً لله على نعمائه). وكان يفعل ذلك في إبان ملكه ومجده وعظمته.
قلت لصاحبي وقد يكون في ذلك بعض المبالغة من أصحاب السير؛ ولكن ما الحكمة في ذلك وكافور لم يعقب نسلاً ولم يترك أهلاً ولم تصمد دولته بعده ليتملقها الكتّاب والمؤرخون؟ وهذه ناحية أخرى تحبب إليّ الرجل: هي فهمه للناس وعطفه عليهم وأخذهم باللين مع تعاليه عن تصديق الوقيعة وقبول الفتن. فقد ذكر ابن خلكان في ترجمة الشريف