وكان ملتن يؤمن بأن من يسمو بنفسه لا بد أن تواتيه قوة خارقة على التعبير عما يريد من معاني السمو، وبقدر ما يكون من طهر نفسه يكون ما يتوافى له من البيان فيما ينهض لبلوغه من معارج القول
وإلى جانب ذلك كان ملتن كثير الذهاب بنفسه، يعتقد أنه فوق غيره في الذكاء والعلم، يتداخله منذ صغره شعور قوي بتفوقه وامتيازه، وهو نوع من الاعتداد بالنفس حري أن يسمى الكبرياء العقلية، جعل ملتن الشاعر يؤمن بفكرة هي تغلب العقل على العاطفة، وهذه هي الحكمة، ثم يأخذ نفسه من غير هوادة بما تقتضيه منه الفكرة، فلا ينقاد لعواطفه يعيش حكيماً معتصماً بالزهد والعفة.
وإنه ليعتقد أنه خلق لعظيمة من العظائم في دنيا الشعر، وأن الزمن يهيئه فيعزله عن الناس ويرفعه فوقهم درجات ليتسنى له أن يأتي بما لا يستطيعون أن يأتوا به، وكان ولوعه بالأدب وشغفه بالبيان واستمساكه بالفضيلة، كل ذلك إرهاص يكون بعده الإعجاز!
ولم تصرف ملتن عنايته بالأدب والشعر عما فرضت عليه الكلية من دروس. كذلك لم تصرفه عنها كراهيته إياها ودعوته القائمين بالأمر إلى إصلاحها، وتوجيه المطاعن إليها، فهي أمر لابد منه إذا شاء أن يظفر بالإجازة الجامعية؛ وهو منذ صغره دؤوب على العمل صبور جليد، فما ينوء اليوم بأن يجمع بين دروسه الرسمية ومتعة نفسه من الأدب والشعر وغيرهما مما لا يدخل في محيط الدروس المقررة.
ويشهد أكثر القائمين على أمر الكلية أنه طالب مجد في عمله، نشط في طلب المزيد من العلم، يحب أن يحيط بما يدرس إحاطة، ولولا نزعته الاستقلالية ونفوره من القيود ورغبته أن يختار الوقت الذي يحب لينجز ما كلف من عمل، ما شكا منه أحد، ولا كان بينه وبين تشابل عريفه الأول ما كان من شحناء وتنابذ.
ولم يتخلف ملتن عن أقرانه على الرغم من فترة إبعاده عن الكلية، فحصل عند نهاية الأجل المقرر للدراسة الأولى على درجته العلمية الأولى، وكان اللاهوت هو العلم الأساسي الذي اختار من أول الأمر أن يمتحن فيه، ويحصل على درجته، فدرسه ودرس ما يتصل به أو يتفرع منه من معرفة.