ولئن درس اللاهوت على عسره دراسة جد، واستوعب ما يحيط به، فإن قلبه كان يجد العزاء في مجال آخر محبب إليه، وأي مجال أحب إليه من الشعر وأنغامه وأحلامه؟ وهل يشغله عنه شاغل مهما جل، وهو من افتتن به وظن أنه خلق له منذ من العاشرة؟ لذلك كان يعمد إلى قيثارته يغنى عليها أناشيده كلما نفض من اللاهوت يده!
ففي أول سنة له في الكلية، وقد دخل في سنته الثامنة عشرة، نظم الفتى باللاتينية - أول ما نظم - قصائد ست، ثم نظم واحدة بالإنجليزية، ولعله اختار اللاتينية لأنها لغة أوفيد، وهو به متعلق مشغوف منذ صغره؛ وكانت معظم أشعاره اللاتينية مراثي في مناسبات على نحو ما يفعل عادة من يستطيع النظم من الطلاب؛ ولكن طموح ملتن وثيقته في نفسه ألقيا في روعه أنه شاعر حقاً، وأنه لا يتكلف النظم كما يتكلفه غيره، وأنه ما يسطر على القرطاس شيئاً إلا استحق أن يشيع في الأدباء! ولكن الذين كتبوا تاريخ حياته، ممن لهم علم باللاتينية، يرون التقليد في هذه الباكورة يغلب على الأصالة. وكان ملتن يقلد أو قيد، وقد اتجه بقلبه وخياله إليه، كما يصنع الأفراخ النواهض من الشعراء أن يتأثر كل منهم في صدر شبابه بواحد ممن حلقوا قبلهم في سماء الشعر!
وكانت القصيدة الإنجليزية كذلك مرثية بكى بها الشاعر الشاب طفلة من ذوي قرباء، وعنوانها (في موت طفلة جميلة أودت بها سعلة). ونلمس في هذه المرثية خصائص ملتن الأولى في الشعر: فموسيقاه حلوة، وألفاظه تنساب في يسر وإشراق، وإن لها في السمع لجرساً ساحراً جميلاً. . . وهو كثير الإشارة إلى الميثولوجيا الإغريقية والمسيحية، يكثر من ذكر الآلهة؛ وهو يأتي بالصفة تتداعى بها إلى الذهن المعاني المتصلة بما يصف في قوة ومهارة، فتوحي بذلك الأبيات القليلة معاني كثيرة، بل لقد يجعل للكلمة الواحدة معنى واسعاً بما يسبقها أو يلحقها به من الكلام، فيرمز للموت هنا مثلا بالشتاء، وقد ناجى الطفلة في مبتهل القصيدة باسم زهرة من أشهر زهرات الربيع يكفي النطق بها لتذكر الأنفس الربيع وموسمه الحفل؛ ثم يعود فيتحدث عن الطفلة كأنها ملاك عاد إلى أفقه، وقد اتخذ صورة الإنسان لحظة، لُيري الناس كيف يحتقرون هذه الأرض، وكيف تهفو إلى السماوات أرواحهم، ويسأل أمها تبعاً لذلك ألا تحزن، فما فقدت شيئاً. . .!
وبعد ذلك بسنتين ينظم باللاتينية أولى غرامياته، وفيها يذكر أن عينيه وقعتا في سرب من