يسلك إلى بيته طريقا طويلا يمر بمنزل فريد، رجاء أن يقابله بيرام عائداً فإن ميعاده قد حان، ولكنه لم يصادفه.
قضى محمود ليلة (نابغية) فقد أخذ موضعه من سريره، ولكن النوم ضل طريقه إلى عينيه، فلم يغمض له جفن. وقد تمثلت له حوادث النهار حقائق لا يعتريها شك، ولا يتسرب إليها وهم. ولقد امتد به الخيال فذهب يرافقه السيد عفت ونجله فريد إلى (دومن) وقابلو بيراما في بيته وأرشدهم إلى الكهف وقادهم في مسالكه ورأوا بأنفسهم ما احتواه الكهف من ذهب نضار، وتماثيل عجيبة، انفسح لها مجال الفخر بأن يد الزمن عجزت أن تمتد لها بسوء طوال هذه القرون البعيدة، التي مرت بها، وفي هذا دلالة على أن صانعها في ذلك العهد الغابر قد ضرب في جودة الفن بسهم وافر. وأن الألبان أهل حضارة قديمة، ومدينة عريقة، وهذا الكهف بما فيه شاهد عدل، وحجة دامغة على من يدعى الإنكار.
وهاهي ذي الأزيار الكبيرة قد امتلأت بالذهب ولا يعلم إلا الله وحده متى جمع هذا الذهب؟ ومن أين جمع؟ ومن جمعه؟ فقد تكون الجنود الألبانية المنتصرة قد غنمته من عدو مغلوب في ذلك العهد البعيد، أو تكون الحكومة القائمة آنذاك قد استبدلت به الأسرى والسبايا التي عادت بها جيوشها المظفرة، أو تكون قد جمعت من أفراد الشعب ظلما بأيدي حكام طغاة ضلت الرحمة طريقها إلى قلوبهم. . .
وهاهي ذي قد زالت من الوجود الوسائل والغابات التي جمع بها ومن أجلها هذا الذهب، وبقي هو ليبدأ اليوم صفحة جديدة في حياة أناس آخرين لا صلة تربطهم - في الواقع - بمن جمعه، ولم يقدروا في يوم ما أن القدر قد كتب لهم في سجل حياتهم هذه السعادة، وهذا النعيم.
ها هو ذا القنديل المعلق في وسط الكهف يقرأ علينا من أخبار ذلك القصر العظيم الذي كان يشع فيه ضوؤه، ويقص علينا من تاريخ أهله العجب العجيب، فهؤلاء أمراء الأجناد وأبطال الحرب ينتظم عقدهم كل مساء إذا أوغل الليل، يدبرون مع الحاكم خطط الهجوم على العدو، ويتشاورون في أنجح الطرق وأضمن الوسائل للتغلب عليه، وإن عددهم ليتناقص واحداً واحدا على مر الأيام حتى لم يبق منهم أحد، فقد فنوا جميعا، ولحق بهم الملك بعد قليل - سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولقد قام على أنقاضهم