يرسلها واحدة تلو الأخرى، يريد أن يقول: إنها أطياف الفرح يوحيا إلى النفوس إذا لاذت به. وكلها مما يملأ القلوب بهجة ونشوة، (فهناك ضوء القمر في الليل الساجي وغناء القبرة ينبعث من برجها العالي في السماء، ثم صياح الديك بعد ذلك يبدد الظلام، بينما يسوق أمامه في نشاط حسانه إلى باب الحظيرة، ثم كلاب الصيد ونفيره توقظ في مرح الصباح الناعس، والشمس تنحدر من الباب الشرقي متشحة بالشعل فتبدد السحب، والحرث يصفر لحناً على مقربة من الأرض التي خططها بالأمس، وحالبة اللبن تغني طرب، والرعاة يتلو كل منهم قصته إلى جانب ألا لفاف الخضراء، والقطعان والمراعي والمروج الخضر، والجبال والنهيرات والأنهار الواسعة تجتليها العين في نظرة، والأبراج الشاهقة بين الأشجار لا يبعد أن تكون مقراً لذات حسن، فهي لذلك مهوى البصر لكل عين قريبة؛ ويتراءى غير بعيد دخان ينبعث من كوخ قائم بين شجرتين عتيقتين باسقتين من أشجار البلوط، حيث يطعم الرعاة طعامهم الشهي الريفي قدمته إليهم الراعيات، ثم انطلق النساء منهن والصبايا إلى الحصاد يحصدن الزرع ويسوينه حزماً؛ وثمة فرحة أخرى طليقة يبتعها مرأى القرى القريبة يلحن للعين على مرتفع، هنالك حيث تصلصل الأجراس المرحة تباعاً، ويغني المزمار الطروب فيشجي الفتيان والصبايا، إذ يرقصون جماعات في الظلال الرقطاء، وقد خرج الكبار والصغار يرتعون ويلعبون في يوم بطالة ضاح، ولن يزالوا في مرحهم حتى ينطوي ضوء النهار الطويل. ثم إن لهم بعده متعة في الصهباء تدار عليهم أكوابها إلى جانب الموقد، ومتعاً في حكاياتهم عن الحصاد وموسمه يقضون فيها شطراً من الليل. . .)
ولن ينسى الشاعر أن يورد صور المرح في المدينة، وقد وفاها حقها في القرية، فينتقل بخياله إلى المدن ذات الأبراج وما تزدحم به من أخلاط الناس وأنماطها، وفيهم زمر الفرسان وذوو البأس من البارونات، يتفق لهم في ملابس السلم نصر عال على أسراب الغواني، تمطر أعينهن البراقة السحر على من يبتغون الوسيلة إلى قلوبهن، ومن يرتقبون ما يجزين به اللباقة والفروسية، إذ تسعى كلتاهما جاهدة للظفر بعطف ملكة الجمال. ويستطرد ملتن في وصف متع المدينة ومباهجها، فيسوق منها صوراً متتالية كأنها صور فلم بهيج: فثمة حفلات الأعراس وإليها يشير في مهارة بذكر (هيمن) إله الزواج في