الأرض متدبرة متفكرة، أما الرفقة التي تصطحب فالسلام والهدوء والصوم والعزلة والتأمل والصمت؛ ويجعل الشاعر من هذه المعاني شخصيات فيتحدث عنها ويصفها كأنما يتحدث عنأشخاص.
ويعرض الشاعر أنماطاً من الصور تناسب حالة التفكير التي يصف أو ما سماه الشجن العاقل. وبقدر ما كان في قصيدته السالفة من مرح وجلبة وفتون، تنطوي قصيدته الثانية على الوجوم والهدوء والسكون. وأكثر صوره هنا في الليل، فهو يحب أن يمد سمعه إلى صوت الكروان، ويحب أن يمشي في سكون تحت القمر حتى يبلغ في السماء أقصى ارتفاعه؛ ويحب أن يجلس في ضوء مصباحه في هدأة الليل لا يسمع إلا صوت خفرائه، فيقرأ فلسفة أفلاطون، ويقرأ الشعر والمسرحيات والقصص الرفيع. والليل هو الوقت الذي يعشق فهو قائمه كله لا يبرح مكانه حتى الصباح كما لا يبرح الرب الأكبر من النجم أفقه، فإذا كان الصباح فليكن صباحا تكتنفه الغيوم وتتناوح فيه الرياح الهوج، ويتساقط المطر؛ وإذا ما قدر للشمس أن تبدد الغيوم بعد لأي فليتوار عن ضوئها في كوخ أو في عش منعزل بين الشجر لا تقع عليه عين، وهناك فلينم حتى ينهض وفي إذنيه موسيقى حلوة من الحان جنة الغابة. وهو يحب أحيانا أن ينقل الخطاء متأملا في فناء كاتدرائية قوطة عتيقة عالية الأقواس، توحي إلى النفس ذكرى الدين، ثم يستمع إلى الأرغن، يتصاعد في الجو لحنه فيذيبه اللحن من فرط انتشاء روحه ويستنزل كل ما في السماء حتى يراه ماثل أمام عينيه. وأخيراً فما أحب إلى نفسه أن يقضى عمره في صومعة منعزلة حيث لا يبرح يطلب الحكمة ويستزيد من المعرفة مما هو بسبب من كل ما في السماء وما في الأرض، حتى تهيئ له خبرته الطويلة حالة حالا أشبه بحالة النبوة.
وتلك هي خلاصة قصيدة الثانية، وهي من حيث الأسلوب والبيان والفن الشعري كسابقتها روعة بناء وبراعة تصوير وقوة أداء وسمو فن، كما أنها مليئة كأختها بالإشارات إلى أساطير الإغريق والرومان فلا تكاد تخلو فقرة منها من إله أو آلهة. ولا يكاد يفرغ المرء من قراءة القصيدتين حتى يتبين أنهما تصفان حياة الشاعر في عزلته بهورتون، فذلك ألاليتجرو أو الفتى الطروب هو ملتن في إحدى حالاته، وذلك البنسروزو أو الفتى المتفكر هو كذلك ملتن في حالته الأخرى، وما هاتيك الصور التي صورها في القصيدتين إلا ما