هاأنتذا قد فررت من الدلتا إلى أصقاع أجنبية، وارتحلت من أيدوم إلى تنو، وجست خلال بلاد شتى طوعا لما جال بخاطرك فتأمل، ويحك، ما أداك أليه طيشك!
لست أدري ماذا حملك على هذه الهجرة، وأنت لم تجترح جرما، ولم تحتكم إلى مجلس الأشراف لتسمع حكمه فيك أنها أوهامك الكاذبة التي دفعتك إلى تلك الهجرة.
ولقد كان ما كان من أمرك على ما علمنا وعلمت، فلا تتحول عما أزمعت من الرجوع إلى وطنك بعد أن وضحلك الذهب السوي، كما أن مولاتك الملكة لاتزار تتألق في القصر على غاية من الرغد والعافية، وقد نما أولادها وصاروا زينة القصر، واتخذوا منازلهم في القصر، ولقد ابتهجت الملكة وأولادها بنبإ مقدمك حين نمى إليهم، وسيسعدهم أن يجزلوا لك الهبات، وأن يرعوا حقوقك. ولتثق أنك، عند عودتك إلى القصر الذي فيه نشأت ستكون حيث يليق بك، فدع كل ما في يديك، وعد إلينا بنفسك، حتى إذا بلغت مصر فاجعل وجهتك القصر المعظم فانك ستكون فيه زعيما على أنداد مرة أخرى.
هأنتذا تشعر بالشيخوخة تدب إليك، والضعف يحترم قواك وقد صار التفكير في دفنك بعد موتك يقلق فكرك، ويعذبك.
لا تجزع فانك ستعود إلى الوطن المقدس، حتى إذا حان حينك زاملوك بلفائف الكتان، وصبوا عليك الزيت حنوطا، ووضعوك في نعش مذهب قد طلى رأسه بطلاء لازوردي، وغطى بغطاء في شكل السماء، وعندما تشيع جنازتك ستجرها الثيران، وبين يديها المربتون يرددون أمامك أناشيدهم، وإذا ما أنزلت في قبرك - حيث يقبر أبناء الملك - رقصوا أمامك رقصة الدفن، وقام النائحون يجأرون بصلواتهم ومراثيهم لتأبينك، ونحت القرابين على روحك، وشيد فوق قبرك هرم من الرخام الناصع.
هذا ما ستكون عليه شعائر دفنك في وطنك بين أهلك، ولن تموت كما تخشى في أرض أجنبية فيلفك الأسيويون في أديم شاة، ثم يشيعونك وهم يدقون الأرض، ويبكون على جثتك إلى أن يغيبوك في لحدك وعليك أن تبادر إلينا بالرجوع).
كنت مجتمعا برجال قبيلتي حين أتاني الجواب، وما كدت أستوعبه حتى خررت على وجهي، وعفرت بالتراب رأسي، ولم أتمالك نفسي أن أقفز وأن أطوف بفسطاطي، وأصيح قائلا: (عجبا لي كيف أجاب إلى ما طلبت، وما أنا ألا تابع تمرد على سيده، وأبق من