(أغلق صلاح باب مسكنه خلفه، وقبل أن يهم بالنزول في الدرج، فتح باب المسكن المواجه له، وخرجت منه فتاة واسعة العينين، ناهدة الصدر، نحيلة الخصر، وما إن تلاقت عيناه بعينيها حتى غض من بصره، وتأخر خطوات ليفسح لها الطريق؛ فمرت من أمامه، وملأت خياشيمه رائحة عبقة أنعشت نفسه، ولكنه ظل مطأطئ البصر، وهبطت الدرج قافزة، ولم يقدر صلاح على أن يقمع شهوة التطلع طويلا، فنظر من بين أهدابه المسبلة، فوقع بصره على ثديين يترجرجان صاعدين هابطين، فأغمض عينيه، وتعوذ من الشيطان الرجيم، وخفت وقع أقدامها وتلاشى، فوجد نفسه يهبط مسرعا - وما كان لينزل إلا متمهلا وقورا، متخذا سمة الكهول الموقرين - وسأل نفسه عما دفعه إلى الهبوط السريع، فرد ذلك إلى جو الربيع الذي أنعشه، ودب فيه نشاط حبيب إلى النفس، وبلغ الطريق فلمحها تغذ في السير، وتصعد إلى الطوار خفيفة رشيقة، وما تقع في الطريق خطوات، حتى تعود لتقفز إلى الطوار ثانية كأنها خيال يطير، لا يبغي المكوث على الأرض ولا يطيق اللصوق بها. ووجد نفسه يغذ في السير، ولكن علام الإسراع، وما هناك حاجة إلى الإسراع، فما زال في الوقت متسع؟ وأحس همسا خفيفا ينبعث من داخله يستفسر: ترى أتغذ في السير لتلحق بها وتتطلع إليها؟ وما همس هذا الهاجس في نفسه حتى تفزع وجفل، وضيق من خطوه، وتعوذ وابتدأ في قراءة المعوذتين!)
ثم تتابع الحياة دورتها، ويتابع المؤلف خطوات صلاح. وصراعه مع نفسه، ومغالطته لها، وهواجسه وخطراته، وتناقض أحاسيسه، وإقدامه وإحجامه، واقترابه في كل إقدام وكل إحجام من الهزيمة والاستسلام؛ في أسلوب بارع فائق لا نستطيع مجاراته فيه ولا نملك تلخيصه، حتى نلتقي بالبطل في موقف الهزيمة الأول:(وانطلقا في الطريق الهادئ الساكن الممتد على النيل، وسارا صامتين كأنما استعارا صمتهما من صمت المكان، واقتربت (بديعة) منه حتى التصق كتفها بكتفه، واصطدمت يدها بيده أكثر من مرة، واستقرت يدها في يده أخيرا، فراح يضغطها ضغطا خفيفا، فكان يحس بنشوة لذيذة تسري فيه، ما كان يحسها لو أن اليد التي كانت في يده يد (سميرة)، واستمر السكون مخيما عليهما، وكان سكونا خارجيا، ولم تكن نفساهما ساكنتين، بل كانتا تعتلجان بشعور فوار، فقد كان كل منهما يتمنى أن يضم صاحبه إلى صدره ليطفئ ناره!