يمثل بلاده كمعتمد أو سفير فلم يعتب عليه بلد أوربي، ناهيك عن أنه مكث حقبة من الزمن في طهران وعاش مدة في الريو دي جانيرو، ولقد كانت آخر هذه العواصم مدينة استوكهلم، قام على أثرها بجولة في روسيا وأنحاء بلاد اليونان، ثم عاد إلى فرنسا وأحيل على المعاش. ولا يخطر على بالنا أنه أنقطع في كل هذه الحقبة عن الحياة الأدبية فهو ما فتئ مؤمناً بنظريته إيماناً أعمى يجد فيها فتحاً جديداً، يتحدث عنها في كل مجلس يضمه، الأمر الذي حدا بالأميرة غون تجشتيان أن تقول فيه:(هذا دون كيشوت حقيقي في قالب علماء الاجتماع ولباس رجال السياسة).
لم يشأ القدر أن يترك الخيبة التي لحقت بالكونت تقتله من جراء الفشل الذي أصيبت به نظرية الأجناس البشرية؛ فقد قدر له أن يجتمع في روما بالموسيقار الألماني الشهير ريشار فجنر، فأغرم هذا بالنظرية وبصاحبها ووعده إذا قدم وإياه ألمانيا أن يعمل على جهده نشرها. وهكذا كان فاجتمع الصديقان في مدينة بايرون حيث احتفل أدباؤها بصاحب النظرية احتفالاً باهراً وأظهروا استعدادهم لنشر آرائه، وكان أول عمل قاموا به. أن أسسوا من بينهم رابطة سموها باسمه ونشروا كتبه بالألمانية، ومنذ ذلك الوقت اشتهر دي غوبينو في الأوساط العلمية والسياسية، إذ أن النظرية جاءتهم في وقت كانوا فيه على وشك انتهائهم من تحقيق الوحدة الجرمانية يفكرون بتأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف، فأتخذها رجال غليوم الثاني وسيلة لدفع الشعب على غزو المستعمرات ونشر العلم الألماني في الآفاق البعيدة حيث تقول النظرية بأن السيادة للغالب المتفوق، وليس جديراً بالغلبة والتفوق غير الآريين، والعنصر الجرماني أسمى عنصر آري.
ولقد لعبت النظرية دوراً مهما في عالم الأدب والسياسة، فتغنى بها الكاتب الألماني الشهير فريدريك نيتشة وأوحت إليه بعض آرائه عن السبرمان، ومنها انبعثت فكرة المدى الجرماني قبل حرب سنة ١٩١٤، وكانت للوطنية الاشتراكية بمثابة الحجر الأساسي، ولها التأثير الأول في تجريد الأقلية اليهودية عن الجنسية الألمانية واعتبارهم عرقاً رديئاً منبوذاً لا يجوز الاتصال به ولا ندري ما ستخلقه في المستقبل.
عامل انتشار النظرية في ألمانيا:
لاشك في أن الشعوب الشمالية هي أرقى الشعوب المتمدنة على الإطلاق. ولقد ولد فيهم هذا