شخصاً آخر. فلما سمع السائل من البخيل هذا القول دهش ولم يفهم كيف يستطيع هذا البخيل أو غيره أن يؤنب إنساناً على أمر لم يسبق أن كلمه فيه ذلك الإنسان. وقد دفعه هذا الدهش إلى الاستفهام من البخيل عن هذا التأنيب الغير المسبوق بما يقتضيه وعما يكون جواب المؤنب. واستفهامه عن جواب المؤنب ليس استفهاماً حقيقياً بل لفت نظر إلى ما يكون حتماً وعادة من دفع هذا المؤنب إلى مقابلته بكل شر.
وجاء في صفحة ١٩٥:(وقال الأفوه الأودى:
تهنا لثعلبة ابن قيس جنفةُ ... يأوي إليها في الشتاء الجوع
ومذانب لا تستعار وخيمة ... سوداء عيب نسيجها لا يّرقع
وكأنما فيها المذانب حَلْقَةّ ... ودم الدلاء على دلوج يّنزع
وقال الشارحان في تفسير البيت الأخير: (يقول كأن المغارف (المذانب) وقد أحاطت بحافة هذه الجنفة حلقة لاستدارتها حولها، وكأن ما يغرفه منها الآكلون لعظمه وثقله ماء دلاء يرفعه النازعون بمشقة. وأقول: إن هذا التفسير متكلف ملتبس، وأظهر مبهماته عبارة (ماء دلاء) فإن المذكور في البيت دم دلاء، ولا ندرى كيف يجعل الدم ماء. والأصح أن كلمة (حلقة) في البيت محرفة عن (خفة)، وكلمتي (ودم) مصحفتان عن كل كلمة واحدة هي (وذم) والوذم جمع وذمة وهي الرباط من جلد أوليف مثلاً يشد بها طرفاً خشبة الدلو إلى عروتيه. وإذن يكون معنى البيت بعد التصحيح: كأن تلك المذانب (المغارف) إذ تراها متعاقبة يخلف بعضها بعضاً على النشل من القدر تحسبها أخشاب الدلاء انفصلت وانتزعت على أربطتها من عروتي تلك الدلاء أثناء الدلوج من البئر إلى الحوض. هذا ما يخيل إلى أنه الأصل وأنه المراد. ويؤكده عندي أن المغرفة هي ساق متصلة بكتلة مقورة من الخشب وهيئتها كهيئة الدلو إذا انفصلت، وفي أحد طرفيها الوذمة التي هي أوسع قطراً منها. والتصحيح والتفسير على هذا الوجه يقتضيان جعل (ينزع) بالتاء بدل الياء. وبعد أن كتبت هذه الملاحظة اتفق أن زارني الأستاذ الشيخ علام نصار وكيل محكمة مصر الشرعية فلما قرأها قال: إنه لا يتصور كيف تكون المغارف كخشب الدلاء المنزوعة من عرواتها عند الدلوج من البئر إلى الحوض. وفي ذات مساء قال لي في التليفون: إنه راجع هذه الأبيات في ديوان الأفوه الأودى فوجدها كما صححتها.