اليوم يبكي رجال (منا) كانوا يأكلون الطيبات، وينامون على ريش النعام، من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب، ويأكلون الخبز اليابس.
اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العز في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين.
اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلات (الاستخبارات) أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالأجراء في المزبلة بعدما مات الكلب.
ولكن الشعب كله يضحك اليوم، وتضحك معه الدنيا.
اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام، ويضحك الليل بالأضواء والمشاعل، وتضحك المنائر بالتكبير، وتضحك النواقيس بالرنين، وتضحك الأرض والسماء!
اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً، كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان!
لقد نامت دمشق البارحة ملء جفونها من بعد ما صرمت تسعة آلاف وثلاثمائة وسبعاً وتسعين ليلة وهي تنام مفزعة الفؤاد، مقسمة اللب، تخشى أن تصيبها من الفرنسيين بادرة طيش، أو نوبة لؤم، تذهب بدار عامرة: أو تضيع حقاً ظاهراً، أو تريق دماً بريئاً؛ وأغفت تحلم بالمجد والحرية، وقد مرت عليها تلك الآلاف من الليالي، لا تحلم فيها إلا بتهاويل الظلم والموت والخراب، وتأنس بطيوف الأحبة من جند العرب في مصر والعراق والحجاز ونجد، وقد زهت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً بل إخواناً وأصحاب البلد، وقد كانت تروعها كلما نامت أشباح الأبالسة تتراءى في صور جند من الشقر أو السمر أو السود الفرنسيين والمغاربة والسنغاليين، وأمنت الأم على ولدها أن تتخطفه الشراكسة زبانية (كوله) فتلقيه في سجن عميق، أو منفى سحيق، أو تذيقه النكال والتعذيب، لوشاية كاذبة، أو تهمة باطلة، أو طمعاً بفدية أو مال، واطمأن السكان على منازلهم أن تدمرها في هدأة الليل قنابل الطغاة أو تحرقها نارهم أو تسرقها أيديهم! لقد نامت دمشق البارحة وهي