أمر طبيعي، فهي إذا لم تخرج في مظاهرها أو نتائجها عما تقضي به الحكمة كانت أمراً مشروعاً لا نكران له، ومن ذلك نشأت في رأسه فكرة سوف تظهر في كثير من آثاره، وهي العمل على وجود التوافق والانسجام بين القلب والعقل
وثمة شيء آخر نستخلصه من الغنائية، وهو صفة شائعة في بقية شعرة في هورتون، ونعنى بها روحه الإنسانية وتتضح في شدة إحساسه وصدق استجابته لمعاني الحياة، وشعوره بكل ما يشعر به القلب الإنساني من دواعي الفرح أو الحزن أو الراحة أو الألم، وكل ما يهجس في النفوس من رغبات وينهض بها من مطامح؛ وفي هذا كله أبلغ دليل على أن ملتن لم يكن الشاعر المتزمت كما عسى أن يفهم من تمسكه بالفضيلة، كما فيه خير مصداق لقول القائل:(إن ملتن كان خاتمة الأليزابيثيين)
ليسيداس:
كانت ليسيداس آخر قصيدة نظمها الشاعر في هورتون، وكانت في رثاء صديق له هو إدوارد كنج أحد زملائه في كمبردج وكان شاعراً له قدره، وقد غرق هذا الصديق سنه ١٦٣٧ أثناء رحلته من شستر إلى أيرلندة، وأعد أصحابه في كمبردج عدداً من المراثي انتظمها كتاب صغير، وكان من بينها مرثية ملتن!
بدأ ملتن مرثيته بإشارة إلى بعض الأزهار التي يوحي ذكرها الشعر قائلاً إنه يعود ليقتطفها مبتسرة لم تتفتح، وهو يرمي بذلك إلى أنه يعود مرة ثانية إلى الشعر قبل أن يتم استعداده كما يجب، فإن حادثاً جللاً يعز عليه معه أن يظل صامتاً، وذلك هو موت ليسيداس، وكان ليسيداس اسماً اصطلاحياً على أي راع من الرعاة، وقد شبه ملتن صديقه بالراعي تلميحاً إلى الشعر الغنائي ونشأته على ألسنة الرعاة. . .
ويتساءل الشاعر: منذا الذي لا يغني لليسيداس وهو الذي عرف كيف يغني وكيف يطرب؟ فلا أقل إذ من أغنية دامعة على هذا الراحل العزيز!
ثم يستحث ملتن ربات الشعر اللائي يقمن في سفح الأولمب عند البئر المقدسة، حيث موطن (جوف) وسألهن العون، فقد كان ليسيداس قرينه، كانا راعيين معاً على تل واحد يطعمان غنماتهما ويسقيانها من نبع واحد ويأويان بها إلى ذل واحد ويغينان لها بزمارة واحدة. . . ويستطرد في وصف حياتهما معاً وما يحيط بهما من مظاهر الجمال والاستمتاع