هذا، ولم تكن الأطماع التي تعتلج في نفوسهم، والتي يحتمل معها الشك في صدق أحكامهم، بالأطماع الجريئة بعيدة الغور التي قد تتشوه بها الحقائق ويختل معها ميزان الأحكام. فهم مع انجذابهم في تيار السياسة لم يكونوا من رجالها بالمعنى المفهوم، وإنما أهل فن وأدب: مطلبهم العيش الرغيد وأمنيتهم الحياة السهلة الوادعة؛ يفتنهم جمال الحق، ويعجبهم الانضواء تحت لوائه والقيام بنصرته. وإنهم لأقل الناس انحرافاً، وأقلهم تبعاً لذلك تشويهاً للحقائق بزيادة فيها أو نقصان.
وكبار المؤرخين أنفسهم يتجه إليهم من النقد شيء كثير، ويؤخذ عليهم من المآخذ ما يكفي أقله لأن يودي بقدر مؤلفاتهم التي نعتمد عليها الاعتماد كله، ونستنبط منها حقائق التاريخ - فيما نزعم - جلية ناصعة.
جاء في (ضحى الإسلام) عند الحديث عن مؤرخي العصر العباسي الأول:
(قد يكون في عمل هؤلاء المؤرخين بعض مآخذ كتلوين التاريخ ببعض العقائد أحياناً، وكبنائهم التاريخ حول الخلفاء لا حول الشعوب، وإهمالهم كثيراً من وصف النواحي الاجتماعية وغلبة النزعة الدينية فيما يعرضون له من أحداث، وضعف النقد وإيجازه وسذاجته. . . الخ).
ونقول إنه لن يكون نصيب الشعراء من أمثال هذه المآخذ أكثر من نصيب المؤرخين، مع ما ينبغي الاعتراف به دائماً من وفرة حظ الأولين من الصراحة وصدق التعبير، وقلة تعلق أكثرهم بالماديات تعلقاً يدفعهم إلى اعتساف سبيل التحيز أو التحيف.
على أنه ينبغي لنا ندرك الفرق بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين؛ فلا نجشم الشعراء طريقاً غير طريقهم. . . وإنهم لأصحاب الإغراق والإسراف والمبالغة والتهويل. . . تلك الهالات المونقة التي تزين جبين الشعر، والتي لا يصعب على المتفرس أن يتعرف إلى وجه الحقيقة من ورائها. ثم هم بعد ذلك يتفردون بالإبداع في تصوير نفوس الأفراد والجماعات والتعمق في تحليل الشخصيات التاريخية التي يعاصرونها إلى الحد الذي لا يتأتى لكثير من المؤرخين. ورب أبيات قصيرة يصف بها الشاعر حالة من حالات خليفة أو أمير في مجلس سمر أو ساحة قنص أو محفل مناظرة أو مقام مشاورة - تكشف لنا من خلجات هذه النفسية التاريخية ونوازعها ما يعلل الكثير من الأحداث الهامة التي يكتفي