وجدوا المجمع مغلق الباب، فذهب بعضهم إلى دار الأستاذ يسأل عنه خشية أن يكون به مرض، وإذا هو يشتغل بتحقيق كتاب أبي الطيب اللغوي، وإذا هو يحدثهم عن الكتاب، أما حكاية الدعوة، فقد نسيها من أساسها!
أفكان هؤلاء، وفيهم كل عبقري علم، وكل نابغة إمام. . . أكانوا كلهم مجانين؟
أما في رأي الناس، فنعم!
ذلك لان القافلة تمشي، فمن سايرها عدة أهلها عاقلا، ومن تقدم عنها يسلك طريقاً جديداً قد يكون أقرب وآمن، عدّوه مجنوناً، كمن تأخر عنها ليتيه في مجاهل الصحراء!
لكن ذاك جنون العبقرية، وهذا جنون المارستان!
إن العبقري شغل بالعلم فكره كله، فلم يبق منه شيء لفهم الحياة، فصار عند أهلها مجنوناً! وبين جنون العبقرية وجنون المارستان نوع ثالث، ألا وهو جنون الغرام:
وكل الناس مجنون ولكن ... على قدر الهوى اختلف الجنون
والهوى. . . يا ويح الهوى، ما أكثر شعابه، وما أضلّ أوديته؟!
الهوى. . . ومنذا الذي لم يته في واد من أوديته، ولم يسلك شعباً من شعابه؟
إن من لم يهوَ الغيد الحسان، هَوِىَ الرياض والجنان أو الأصفر الرنان، ومن لم تفتنه العيون التي في طرفها حور، فتنته الشهرة واستهواه الجاه. . . كل الناس مجنون، ولكن أخطر المجانين: مجانين الهوى!
وهل في الدنيا اشد جنوناً ممن ينكر الحياة ويعرض عنها، لا يريد أن يبصر وجهها، ويراها سوداء في عينه لا تنيرها الشمس ولا يضوئها القمر، كل ذلك لأن (امرأة) لم تمنحه قبلة. . . يا حفيظ! اللهم إنا نسألك السلامة!
أما عرفتم مجنون (ليلى)؟ هذا الذي زهد في المجد والرفاهية والعلم والمال والجنة. . . احتوى حياة البشر، وهام مع الوحش في البرية، وملأ أيامه حسرة وكآبة وغمام، لأن. . لأن الله خلق عيني ليلى سوداوين فتانتين، وجعل أنفها رقيقاً دقيقاً وبرأ فمها أحمر كالوردة، حلواً كالسكر، صغيراً لا يعرف إلا لغة القبل. . .
نعم، إنه جُنّ لأن الله لم يخلق ليلى هذه قبيحة شوهاء!
لقد كان يعيش قبل أن يعرف ليلى كما كان يعيش سائر أبناء آدم، وكانت حياته كاملة سعيدة