ما استغرقت منذ أثارها الجاحظ فزعم أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، ثم تابعه في البحث ابن قتيبة وقدامة وأبو هلال العسكري وغيرهم مخالفين ومؤيدين. وأنا لنحسب أن (عبد القاهر) قد وصل فيها إلى رأي حاسم حين انتهى إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ، إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه؛ وأن المعنى وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير، إنما من حيث أنه ممثل في لفظ يدور البحث فيه. وأن المعنى مقيد في تحديده بالنظم الذي يؤدى به، فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.
(لم يصغ (عبد القاهر) القضية هذه الصياغة المختصرة، فنحن نترجم عنه، وإلا فقد استغرق فيها كتابا لا نستطيع نقله هنا، ولكن له فضله العظيم في تقرير هذه القضية، ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها لبلغ الذروة في النقد الفني، فنحن نقول عنه: إن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى، وإنه حيثما اختلفت طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد، اختلفت صورتا هذه المعنى في النفس والذهن. وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطا لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد، فلن يبرز المعنى الواحد إلا في صورة واحدة؛ فإذا تغيرت الصورة تغير المعنى بمقدارها. وقد لا يتأثر المعنى العام في ذاته، ولكن صورته في النفس والذهن تتغير. وهي المعول عليها في الفن - إذ التعبير في الفن للتأثير - فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه فالمعنى المنقول مختلف بلا مراء). ص ١٩٠
ويرتب الأستاذ الزيات على هذه الحقيقة نتائجها الطبيعية التي رتبها عليها بعض النقاد في الشرق والغرب، ولكن في شيء من الحماسة قد يجاوز القصد. قال في ص ٦٦
(وقد غإلى علماؤنا البيانيون، فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها، فمن أخذ معنى بلفظه كان سارقا، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظا أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه.
(على أن هذا الرأي الجريء لم يكن من رأي العرب وحدهم. وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن (الأسلوب) التي ألقاها يوم دخل