يمدد بما يطلب من المال وإن كان لا يزال يعجب ويتألم ألا يتخذ ابنه عملا إلا ما لا يبرح يردده من تثقيف نفسه أيكون أهلا لما يستشرف له في دنيا الأدب؛ وراض الرجل نفسه على سماع هذا وعلى الجود بما يطلب ابنه من المال. والحق أن ابنه لم يطلب منه كثيراً وحسبه من المال ما يشتري به قوته وما يلزم له من الكتب وما يدفع منه أحر مسكنه. . .
وضاق المسكن الجديد بكتبه ما اقتناه منها في هورتون وما اشتراه من إيطاليا، فاتخذ له مسكنا أوسع منه في أطراف المدينة. وهناك عكف على القراءة والدرس تاركا الشؤون العامة إلى (عناية الله أولا ثم إلى من وكل إليهم الناس القيام على هذه الشؤون).
وأشرف ملتن في مسكنه الجديد على تعليم ابني أخته وقد قبلها ليقيما عنده بعد موت أبيها وزواج أمها من غيره، وما لبث أن ضم إليها عددا من أبناء أصحابه الأقربين. وأقبل على تعليمهم جميعا في حماسة ولذة لا تقل عن شغفه بالقراءة والدرس ولقد عجب دكتور جونسون من عمله هذا وسخر منه فأشار إليه بقوله:(إنه ينظر بشيء من الفكاهة إلى ذلك الرجل الذي يبادر بالعودة إلى وطنه لأن قومه يكافحون في سبيل الحرية، ولكنه لا يلبث وقد ميدان العمل أن يدع وطنيته تتبخر في مدرسة يفتحها في بيته).
وأقبل ملتن على تعليم هؤلاء الصبية وعلى قراءة فلا يدع فيها ساعة من نهاره إلا ملأها بعمل حتى أيام الآحاد فلم يدع فيها كتبه وأوراقه إلا ريثما يؤدي واجب الدين. ونتبين مما كتبه أحد ابني أخته فيما بعد عن حياته وأخيه في بيت خالهما أنه كان يأخذهما بالجد في غير هوادة ومن كان معهما من أبناء أصحابه، ولكنا لا نتبين فيما كتب أن ملتن قد اهتدى إلى طريقة خاصة في التعليم أو أنه جرى على أسلوب اقتنع بسلامه وفائدته، فكل ما ذكر ابن أخيه لم يعد الكم؛ فهو يباهي بأنهم قرءوا كثيرا وتعلموا كثيرا. . .
بهذا الدأب وبهذه العزيمة أقبل ملتن على العمل بعد عودته من إيطاليا. على أن ابن أخته يذكر من أنباء تلك الأيام أن خاله كان ينصرف عن العمل كل ثلاثة أسابيع أو كل شهر مرة فيقضي يوما بين نفر من صحابته يستمتعون بالمرح واللهو البريء.
وماذا كان يقرأ ملتن بعد أوبته من إيطاليا؟ إنه اليوم شديد الولوع بالتاريخ وعلى الأخص تاريخ قومه، وإن الملحمة التي داعبت خياله في إيطاليا عن تاريخ قومه أو الآرتريادة ليعاوده حلمها اليوم ويلح عليه. ولقد أشار إليها كما ذكرنا في مرثيته عن صديقه ديوداتي؛