الهواء الثائر قد هدأ عصفه وخف زئيره، فلا تسمع سوى أنات النسيم الرقيقة يبثها فوق ورق الزعرور. . . وكانت السماء موشاة بغيوم متناثرات هنا وهناك. وقد ظهر القمر شاحباً يترنح بين الغيوم، كأنه ثمل أو سكران. . وكانت القرية مغمورة بكآبة نشرها عليها ضوء القمر الشاحب. وكان الشيح يمشي هو ساهم يترنح. ولم ينس أن يبتعد عن مخفر الحارس لئلا يقبض عليه. لقد تمثل في خاطره كيف ساقوه إلى الحاكم لأنه سرق دراهم جاره الغني، وكيف اقسم انه لم يسرق، لئلا يفتضح وقد شاب رأسه. وذكر ما أصابه منذ انفتل راجعاً إلى داره يحمل لأولاده لقيمات. وكان يخيل اليه، وهو يمشي، أن تلك الأنات التي ترسلها النسمات معناها (الدراهم) أما تلك الأشجار المنتصبة في الفضاء فهي أشباح، أو أناس يترصدونه لقبضوا عليه جزاء يمينه الغموس التي حلفها اليوم. وخامره خوف شديد لا عهد له به من قبل.
فكان يقشعر بدنه كلما ظهرت أمامه شجرة من وراء المنعرج، أو من يمين الطريق، كأنها الشبح. فإذا ما تبينها تنفس الصعداء وأحس كأن ماء حاراً صب فوقه، فيرفض جسمه عرقاً. ثم يعاود سيره بجد، ويلتفت من حين إلى حين يمنة ويسرة، ينظر أيتبعه احد، ثم يحدق أمامه ليطمئن إلى طريقه الطويلة. وينظر إلى الأحجار المبعثرة على جنبات الطريق، التي تبدو كأنها جماجم الموتى، تلمع، وهي صلعاء، تحت ضوء القمر.
وخرج الشيخ من القرية وابتعد عنها، وبلغ داراً كبيرة منعزلة قامت على رابية، وطرق سمعه أصوات عربدة تصدر من الدار فتقدم من نافذة الدار. فرأى النور يتدفق منها، فساءل نفسه، لم ينهره الحارس إذا رأى النور في عليته، ويسمح للحاكم أن ينير غرفته؟ ثم حدق في ثقب من النافذة، فرأى مائدة حفلت باللحوم والأطعمة والأشربة. ورأى الحاكم، وقائد الجند يكرعون الشراب كرعاً، ويلتهمون اللحم التهاماً، فأرتد بصره، وذرف دمعة، وصعد حسرة.
وتعالت أصوات المعربدين، لقد حار في أمره، انه ننا قائد الجند الفظ الغليظ، ذو العصا الضخمة. . . ولئن طرق الباب، فانه ليخاف عصاه، وهو يخشى أن ينهره الحاكم، أو يسلمه للجند. انه الحاكم، لا يخيفه أحد، ولا يحفل بإنسان.
وهجمت على رأسه فكر سود كالخفافيش، فذهل. ونبهه همس ناعم. وخفق قلبه. وهم أن