الشعر العربي يعمد إلى بلورة المعنى وإرساله كالقذيفة، وقلما يعني بتصوير الحالات النفسية ووصفها وبسط التجارب الشعورية التي تمتع الحس بتتبعها. إنه يخاطب الذهن غالباً بالمعنى الذهني الأخير الذي لا يتمتع به إلا الذهن وحده. وفي هذا تتفوق طريقة الأداء في غير الشعر العربي: في الشعر الأوربي والهندي والفارسي. ولقد كتبت عدة فصول عن (طريقة الأداء في الشعر) وعن (الصور والظلال في الشعر) وكلها تبرز تقصير طريقة الأداء في الشعر العربي عن نظائرها في الشعر العالمي. والعيب كله راجع إلى بلورة المعاني، واقتضاب التفصيلات، أي إلى هذا الإيجاز الذي قد يفلح في شعر الحكم ولكنه يخفق في تصوير الحالات النفسية، والخطوات الشعورية كل الإخفاق. كما يخفق في القصة التي تقتضي مزيداً من (العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات) تلك الخصائص التي ذكر الأستاذ الزيات أنها من خصائص اللغات التفصيلية. . . وقد نقل الأستاذ كلاماً لأبن الأثير في ص٩٤، له دلالته في موضوعنا: قال أبن الأثير (جلس إلي في بعض الأيام جماعة من الإخوان، وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غر ائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئاً. فقال شخص منهم: (إني كنت بالجزيرة العمرية، في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبياً صغيراً، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا إلى سطح طاحون لبنى فلان، وأخذنا نلعب على السطح، فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون، فخفنا أن يكون آذاه؛ فأسرعنا النزول إليه، فوجدناه قد وطء البغل فختنه ختانة صحيحة حسنة، لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها).
فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عىّ فاحش، وتطويل كثير لا حاجة إليه. فإنك بصدد أن تذكر أنك كنت صبياً تلعب مع الصبيان على سطح طاحون، فوقع صبي منكم إلى أرضها، فوطء بغل من بغالها فختنه ولم يؤذه. ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه. ولو كانت بأقصى المغرب، لم يكن ذلك قدحاً في غرابتها. وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان فإن مثال هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم بدونه) وتعليق أبن الأثير على لسان (شخص من الحاضرين) هو نموذج من فهم العقلية العربية التقليدية للفن. فالمعنى هو