كثب على عوامل الشر والخير في النفس البشرية وفي المجتمع، وتذوق طعم الأمل مرة والأخبية مرة، والنفاذ إلى أعماق العواطف والانفعالات ثم معرفة كيف يكون اليأس القاتم فلا عجب أن يتغنى الشاعر بعد ذلك بالفردوس المفقود، وقد شهد فقدان بني وطنه ما كان يرجوه لهم ويرجو معه المصلحون من حياة في الدين والسياسة على الأرض كحياة الفردوس. وفي هذه المعركة تهيأت في نفسه الملحمة فلم يبق إلا أن يغنيها وان يلبسها لباس الشعر: والحق أن المعركة أجدت علية اكثر مما أجدت قراءاته ودراساته، إذ استطاع أن يضيف خبرة الحياة إلى هبة الفن وان يترك أهذه الدنيا آثرا فذا من هاتيك الآثار الخوالد التي يغنيها كل عصر وتأنس أليها كل بيئة. ومن الخطأ أن نعد ملتن تلك المعركة انتصارا منه لأصدقائه البيوريتا فحسب فان حبة الحرية وميله إلى نصرتها أبدا هو الشعور الحقيقي الذي دفع به إلى الحرب، وكانت غايته التي يصبو أليها أن يعيش الناس طلقاء في أفكارهم وأعمالهم بعد أن يذهب سلطان القساوسة القائم على التعصب والاستبداد بالرأي والاضطهاد، وكان ملتن بحميته وثورة نفسه يمثل في الواقع روح العصر، ففي العصر كله ثورة على الطغيانفي أي صورة وما كانت فلسفة دينية ووثبة سياسية معا. ومهما يكن عنة من عبارات تشعرنا بتردده وإشفاقه فانه اقبل في حماسة عظيمة وشجاعة فذة بعد أن أبتدأ النضال ورأى نفسه في غمار المعركة، وإنما كان ما خيل آلية أنة تردد أسفاً منه على هجرانه الشعر والتهيؤ له. . .
وكيف بدأت المعركة؟ لم يكن ملتن البادئ بها وإنما بدأت في البرلمان الطويل سنة ١٦٤٠ إذ تقدم البيوريتانز من النواب بمقترح الأصل والفرع فعندئذ نشر أحد القساوسة وكان يدعى هول كتيباً سماه (الإعلان المتواضع) ورد فيه على ما اسماه يم وزملاؤه الإعلان الأعظم كما ورد على مقترح الأصل والفرع؛ وأجاب خمسة من البيوريتانز سموا أنفسهم سمكتمنس يدحضون فيه ما ذهب إليه هول؛ وكان توماس ينج أستاذ ملتن القديم أحد أفراد الجماعة، ولذلك ظن أن ملتن اشترك في وضع هذا الكتيب؛ ثم توالت الكتيبات كالسهام من جانب البيوريتانز ومن جانب خصومهم. وشد ملتن قوسه فيمن شد وأطلق أول سهم من سهامه سنة ١٦٤١ في صورة كتيب له أول كتيباته جعل له عنواناً طويلاً هو (حول الإصلاح الديني فيما يتصل بنظام الكنيسة في انجلترة والأسباب التي عاقته حتى اليوم).