كان هذا الكتيب الأول أقل كتيبات ملتن صرامة في القول وعرامة في الخصومة، وإن كان ليبعد كل البعد عن أن يوصف بالهدوء إلا أن يقاس إلى ما سيأتي بعده، وحسب القارئ أن يقع على خاتمته التي يدعو الله فيها أن يجعل العار خاتمة حياة القسيسين على هذه الأرض، وأن يلقي بهم في الدرك الأسفل من النار ليخلدوا فيها وليكونوا في مواطئ غيرهم من أصحاب الجحيم، وفي صفحات الكتيب غير هذا من صارم القول وقاذع الوصف ما يدل على غل الخصومة واحتدم السخيمة.
أتى ملتن في كتيبه هذا بموجز لتاريخ الكنيسة منذ القدم فلم تعجبه في قديمها ولا في حديثها، وما قساوستها الحديثون إلا مقلدون يسيرون على نهج أسلافهم في مظاهر الصوم والصلاة والتظاهر بالزهد، وما كان أسلافهم إلا ضالين غاوين، فالقسيسون أنفسهم خطأ في ذاتهم؛ وهؤلاء الحديثون منهم ليسوا قسيسين في شيء، ثم يشير إلى النهضة الإصلاحية في انجلترة ويذكر كيف تعثرت ووقفت بسبب تعصب القساوسة والملوك واستبدادهم بآرائهم، ويذكر الناس بهؤلاء الأحرار الذين هاجروا بعقيدتهم عن أوطانهم الحبيبة والذين (لم يكن لهم عاصم من غضب القساوسة إلا المحيط الفسيح وصحاري أمريكا الوحشية)، والرأي عنده أن يقضي على الأسقفية فتذهب إلى غير عودة وتحل البرسبتيرية محلها؛ ولئن تم ذلك أصبحت انجلترة (مدينة الله) وانتشرت الحياة الطيبة في أنحائها طولا وعرضاً، فأن هؤلاء القساوسة منذ حلوا بكنتربري قبل اليوم بنحو أثنى عشر قرناً وهم في جملتهم لم يكونوا في انجلترة لأرواحنا واسفاه إلا سلسلة من أئمة الهداية العميان الجهلاء، ولأموالنا وتجارتنا إلا عصبة متلفة من اللصوص ولدولتنا وحكومتنا إلا هيدرا الإساءة والعدوان).
ويتضمن هذا الكتيب ناحية من نواحي ملتن الدينية وهي ما تصوره عن ذات الله سبحانه، فعنده أن الله لا يحد ولا يوصف بصورة معينة ولا تدركه الأبصار، ولا يفوته هنا أن يتهم الكنيسة بأنها تحاول تحديد ذات الله وتصويره وذلك في رأيه أصل الخرافات جمعيا، يقول عن رجال الكنيسة (كما استطاعوا أن يجعلوا الله ينتمي إلى الأرض وأن يكون له مثل جسدنا، وذلك لأنهم لم يستطيعوا أن ينتموا إلى السماء ولا إلى عالم الروح).
وجاء في هذا الكتيب رأيه لأول مرة عن الشعب الإنجليزي، فهو الشعب الذي اصطفاه الله على العالمين، وخليق بهذا الشعب أن يبرهن على أنه جدير بهذا الاصطفاء، ويعلن ملتن