ووقفت أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر. فقعد على كرسي عال، كأنه قوس المحكمة ووقفها أمامه، كالمتهم الذي قامت الأدلة على إجرامه، وافهمها قبح السرقة، وعنفها وزجرها. . وهو ينظر إلى ولده ماجد شزرا، وكانت نظراته متوعدة منذرة بالشر، ولم يسع ماجدا السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة وهي بريئة منها، فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر، فتعجل بذلك الشر على نفسه.
انفجر البركان وزلزلت الدار زلزالا، وأرعد فيها صوت الأب المغضب المهتاج:
- تريد أن تضرب خالتك يا قليل الحياء، يا معدوم التربية، يا ملعون؟ حسبت أنك لو أبلغت الرابعة عشرة قد صرت رجلا؟ وهل يضرب الرجل خالته؟ إنني أكسر يدك يا شقي!
- والله يا بابا مو صحيح. .
- ووقاحة أيضا؟ أما بقى عندك أدب أبداً؟ أتكذب خالتك؟
- أنا لا أكذبها، ولكنها تقول لك أشياء ليست صحيحة.
عند ذلك وثب الأب وانحط بقوته وغلظته وما أترعت به نفسه من مكرها زوجته، انحط على الغلام وأقبل يضربه ضرب مجنون ذاهب الرشد، ولم يشف غيظ نفسه ضربه فأخذ دفتره الأسود الذي أودعه دروسه كلها، فمزقه تمزيقا. . ثم تركه هو وأخته بلا عشاء عقوبة لهما وزجراً. . .
تعشى الزوجان وابنتهما، وأويا إلى مخدعهما، والغلام جاثم مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه، وعاف لأجله طعامه ومنامه، والذي وضع فيه نور عينيه، وربيع عمره، وبني عليه أمله ومستقبله. . ثم قام يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوحت به قنبلة. فإذا هي آلاف لا سبيل إلى جمعها، ولا تعود دفترا يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشلاء بشرا سويا يتكلم ويمشي. . فأيقن أنه قد رسب في الامتحان، وقد أضاع سنته، وكبر عليه الأمر، ولم تعد أعصابه تحتمل هذا الظلم، وأحس كأن الدنيا تدور به وزاغ بصره، وجعلت أيامه تكر راجعة أمام عينيه كما بكر فلم السينما. . .
رأى ذلك الوجه الحبيب، وجه أمه، وابتسامتها التي كانت تنسيه آلام الدنيا، وصدرها الذي كان يفزع إليه من خطوب الدهر، رآها في صحتها وشبابها، ورأى البيت وما فيه إلا السلم