أن تزاول الأعمال الأزمة للطبقة السالفة على أية شرائط حتى يتسنى لها أن تعيش كما كان عليها أن تصرف اليوم كله في الكدح الآلي المطرد الممل. فهل كانت الحرية بالنسبة لهؤلاء الذين قضى عليهم أن يكافحوا الجوع سوى خدعة غادرة وسخرية لاذعة؟ أما لو كان القصد من الحرية شيئا خلاف ذلك، لكان إذن يتعين على الطبقات المترفة أن توافق على تقليل ساعات العمل وزيادة الأجر وتعمل على نشر التعليم المجاني المتماثل للجماهير، كما تسعى في جعل أدوات العمل في متناول الجميع، وان تقدم مكافآت مالية للعمال الذين تثبت كفايتهم ونبل غايتهم.
ولكن لماذا يتعين عليهم أن يقوموا بذلك؟ ألم تكن الرفاهية الغرض الأسمى من الحياة؟ ألم تكن الخيرات المادية مرغوبة قبل كل شيء آخر؟ لماذا ينتقصون من حظهم هم لأجل نفع غيرهم؟ أليس على كل إنسان أن يساعد نفسه قدر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وإذا ما كفل المجتمع حرية استخدام الحقوق الإنسان لكل من توفرت فيه القدرة على ذلك؛ فيكون حينئذ قد أدى كل ما يطلب منه. أما إذا كان هناك أوربا فرد يعجز بحكم ظروفه القهرية علن استخدام أوربا حق من هذه الحقوق فما عليه إلا أن ينسى حساب نفسه ولا يلوم سواه.
لقد كان من الطبيعي أن يصرحوا بذلك، وفعلا فقد صرحوا به. وهذا الاتجاه العقلي الذي ساد الطبقات المميزة بالثراء والذي تحكم في نظرها إلى الفقراء سرعان ما اصبح الوجهة التي انتهجها كل فرد نحو الآخر. فعنى كل إنسان بحقوقه هو وبترقية حاله دون السعي في إعانة غيره. وإذا اصطدمت حقوقه بحقوق سواه تكون حرب، لا حرب الدماء؛ بل حرب الذهب والخداع. حرب أدنى شهامة ورجولة من الأبد، ولكنها تعدلها في الدمار، ويالها من حرب وحشية لا يألو فيها من وفرت وسائله، وبزت قوته في سحق الضعيف أو الأخرق سحقا لا هوادة فيه. وفي حومة هذا القتال المستعر أشربت قلوب الناس الأنانية، والشره في استلاب خيرات الحياة لذواتها دون غيرها وهكذا كانت حرية الاعتقاد معولا يهدم صرح الإيمان كما كانت حرية التعليم سببا في بث الفوضى الخلقية. أليس من شان الناس إذا فقدوا رابطة مشتركة، وانعدمت من بينهم وحدة العقيدة الدينية، ووحدة الغرض، وصارت الهناءة بغيتهم الفريدة،؛ أليس من شأنهم حينئذ أن يسعى كل منهم في سبيله الخاص دون النظر إلى فيما إذا كان في ذلك عدوان على إخوانه. إخوانه اسما وأعدائه فعلا؟ هذه هي